مريم
جلست مريم أمامي ..بوضعية القرفصاء..ترمقني تلك الطفلة بعينيها الصغيرتين ...وجه دائري كالبدر .. وجنتين متوردتين .. تخفي خلف شفتيها ابتسامة شوق وحنان ..ينعكس من وجهها نور..يملأ المكان ..وحديث ذو شجون ..لم تنوء به بعد ..توميء بيديها لشيء ما....رغم صغر سنها ..لم تتجاوز خمسة اشهر ..ليست كبقية الاطفال..احيانا اشعر ان نظراتها تتبع حركات شقيقها الصغير(محمد) ..يكبر عنها بثلاث سنوات .. وكذلك شقيقتها الكبرى (فاطمة) ذات السبعة اعوام ... تسمعهم ينادونها مريم ..مريومة.. يتردد اسمها في كل اركان المكان..معظم الجالسين تشعر بحميميتهم الدافئة ... تبادلهم ابتسامة غامضة تخفي خلفها كلمات مجهولة ..يتسابقون في نيل أجر اليتيم ..أنهم أطفال من الجنة يعيشون في الأرض .. نبع خير وسلام لا ينبض .. لا ريب ان أمها مصدر سعادتها...و تسعد برؤيتها .. أما أبيها فلا تعلم عنه شيء على الاطلاق حتى الآن ..لم تسمع عنه شيئا من قبل.. عدا ان شقيقها يردد انه عند الله ..ماذا يعني ؟ لا تعلم ..كما انها لم تكتحل عينيها بمشاهدته بعد..كما لم يشاهدها هو ايضا ..ذهب عنها قبل ان ترى الدنيا..قبل موعد ميلادها.. تشعرك احيانا انها تفتقد لحنان الابوة..تبحث عن ذراع يلمها ..يلعب معها .. كما تشعرك ببراءتها ..وانها ليست مجرد طفلة يتيمة ..تختزل في عينيها اشياء لا نتوقعها ..تقرأ في تقسيمات وجهها كلمات ضائعة ..اقتربت منها .. حملتها بين كلتا يدي ..اسندت رأسها على صدري..أعلم أن ذلك لن يعوضها .. رفعت رأسها تنظر الى عيني....أطرقت رأسها .. تحاول ان تستنطق لسانها بكلام غريب ..تجر اصوات غير مفهومة ..ولكن بالأحرى ان لها معنى ما لديها .. تساؤلات واستفسارات تضمرها ...دون بوح .. انصت لأصوات تصدرها أحيانا دون ان افهم شيئا منها .. تسترق السمع احيانا من اقرانها الصغار.... لا تزال مريم تلتزم الصمت بابتسامة طفولية ..سرحت عنها قليلا ..سافرت الى عالم آخر ..يتردد في ذاكرتي تلك اللحظة المشؤومة .. قبيل منتصف الليل قليلا ...حينما علمت بحادث الدراجة البغيض ..لم يمهلنا الألم قليلا..داهم الخبر الصاعق الجميع ..تناقل بسرعة البرق عبر وسائل التواصل ..تمنيت ساعتها أحد ما نفيه .. أو الزعم أنه مجرد اشاعة .. اخيرا استسلمت لصحة الخبر ..بعد تناقل التعازي والدعاء بالرحمة له .. تضاءل الأمل في عيون أنهكها وقع الخبر المفجع ..صرخات طوت معها جراحا لم تبرأ بعد .. يتردد صداها في جبال العامرات العتيقة .. نعرفه عزيزا شاء قدره أن يفارقنا سريعا .. اطفال لم تعرف معنى الغياب والفقد .. لم تشعر حينها بنوبات الألم .. نؤمن بالقدر المكتوب ..ذهب الى عالم لا ندركه ...لحكمة ما اقتضاها رب العباد ..الى دار خير من داره .. في تلك اللحظة لاتزال مريم في احشاء الغيب .. استعادت ذاكرتي ابتسامته الاخيرة ..كلماته الاخيرة ..زيارته الاخيرة ... لن ننساها حتما .. ولن تنسى مريم سيرته وماضيه الجميل ..نظرت اليها مرة اخرى بشوق وحنان.. يبدو ان مريم أغمضت عينيها قليلا.. نامت مطمئنة ..لا أعلم ان كانت سعيدة بتلك اللحظة كما يبدو لي ..مؤمنة بالقدر ..ويبدو انها خلدت للنوم على صدري ..فجأة.. نزقت مريم لسقوط دمعة على خدها تدحرجت لاسفل الوجه.. فتحت عينيها قليلا ..أبتسمت لي..ثم عاودت لتغمضها بامان وسلام ... راضية مرضية .. والألم لم يبارح صدري وذاكرتي ..

بقلمي/ناصر الضامري