قَـفْــزٌ حُــرٌّ جِـهَـةَ حُــلـْمٍ مـا !!
عصفور جميل الشكل ، حط على غصن مبتل محبحب بالندى وكأنه درب مجرة تلتمع فيها عشرات النجوم المرئية . أطلق تغريدة فرح عذبة ، وهو ينفض ريشه نشوانا بقدوم الربيع ، ودفء الشمس فيه ، بعد فصل رمادي بارد وطويل ، مر على المكان .
أطفال يركضون ببراءة وجوههم المشرقة ، وأنغام ضحكهم ، وقمصانهم الملونة ، وراء قوس قزح لفراشات جميلة ، رائعة الالوان ، تطير فوق زهور المرج المتمايسة مع النسيم ، والمرشوشة بالندى النقي ، وجو الرياحين السكرى .
السماء زرقاء صافية ، إلا من بعض غيمات بيض متفرقة تزينها، أو بقايا مما كان حتى وقت قريب سحابا ، يغطي قبتها بكثافة ، طيلة فصل شتوي موجع ، كان يرقص بجنون هستيري ، على إيقاع الريح والمطر ، وعواصف الثلوج ، ورجفات البرد ، ثم رحل بصمت ، بعد أن أخذ كفايته من كل شيء ، وودع من ثم الآفاق مع رفاق فوضاه الذين جلبهم معه كجوقة موسيقية ، لا يصلح تجليه القاسي إلا وهي معه ، بكل جنونها وطيشها وعبثها . وهي معه حقا ، لا تتخلف عنه ، ولا تفارقه ، منذ أزل الأبدية ، ومنذ خيارات الكينونة الأولى لمرسم الفصول ، ومواقيت المواسم ، وألوانها ، وأمكنتها المختارة .
بحركة بطيئة ، تسقط ندف من بقايا ثلج عالق على غصن بهلواني ، يطل مثل راقص باليه رشيق ، ماداً يده السمراء فوق صفحة النهر ، ليصافح كل طفو عابر . ومثل زهور النرجس ، تسقط تلك الندف الثلجية الصغيرة ببياضها المشع من على ذلك الغصن الكانت ملتصقة به . تترنح للحظات فوق أديم النهر ، وتتابع سيرها ، من دون أن تغرق ، ثم لا تلبث أن تذوب وتختفي كنجم أبيض يغطس مرهقا في المغيب .
لا يحظى أحيانا بفرصة سبر هذه الندف وتتبعها بعين باسمة إلا شخص رومانسي متأمل ، يعرف ماذا تعني لروحه ولعين قلبه العاشقة للجمال هذه اللقطة الحية ؛ حيث بضع كسيرات من ثلج تهوي للتو من غصن ، وتروح بطفوها فوق النهر ، ثم تذوب بعد دقائق ، وتصبح بتماهيها ذاك جزءا من ماء صاف رقراق ، يمضي دون التفات أو رجوع ، فكل شيء هنا يكمل دورة صيرورته ، ويعود كما كان إلى الأصل . تلك هي القصة في رقصة الحياة !!
الشمس بهيجة ، وأكثر دفئا وحنانا ، وخرير ماء النهر يمر نشيطا ، عنفواني الروح والشباب . إنها صورة الطبيعة الولود ، وهي في أروع أثوابها الأنيقة الجديدة ، وأوج جمالها وفتنتها ، وفوران روحها ، وخصبها الغني . فأهلا بأنوثة الحياة . أهلا بالربيع !!
على جدار صامت ؛ تدلت أيام وشهور ، بعضها انقضى ومات ، وصار مجرد ذكرى ، لشيء من ماض ، أو نسيان متساقط . وبعضها لا يزال على بقية من حياة ، وأخرى تتشكل في رحم الآتي ، وتنتظر ميلادها .
تلك هي رزنامة التقويم بأرقامها ونهاراتها ولياليها وشهورها الإثني عشر . أيام بمجموع كلي ، مرتبط تماما بهذا الكوكب ، وفصوله الأربعة ، بكل أطوار وجوهها المختلفة ، وما سيحدث ، أو لا يحدث فيها من أقدار .
هناك دوائر نفسية ، كل دائرة مرسومة بشكل استباقي ، وبلون مميز ذي دلالة معينة حول رقم معين ، ليوم من شهر آت في الطريق ، أو بعيد الوصول ، حمراء . خضراء . زرقاء . بيضاء . سوداء .. تذكير وقتي ، ربما بنبش قبر ما ، لماض ما ، أو فتح نافذة على جرح كان ، أو استحضار لذكرى حلوة وعزيزة ، نصارع مجاهدين حتى لا تغيب عن البال ، أو تطوى في النسيان .
قد تكون هذه الدائرة ذات اللون المتفائل ، والمحيطة بسوارها حول معصم يوم ما هي بلا شك لشيء نريد أن نوجده ، أو نصنعه من عدم اللحظة الآنية . أملا . حلما وردي الطلة . أو قل بأجمل تعبير بداية خطوة جديدة ، نخطوها بثقة من عتبة باب حاضرنا ، جهة مستقبل ما ، نرجو أن يكون رائعا ومفرحا للقلب ، نثب إليه بطموح حي ، وصبر مكافح ، سعيد جدا بما تفعل يد عزمه وتصميمه وعرق جبينه .
الرزنامة مستندة بكل عامها على الجدار ، والقلب أمامها بوصلة ذات سهمين متعاكسين ؛ سهم يتجه نحو توابيت الماضي ، وسهم آخر يشير هاديا باغراء غامز إلى الحاضر ؛ حيث مرسم الأمل ، وما نريد أن نكون ، أو يكون عليه شكل المستقبل ، القريب من عين القلب ، ووعي الحدس .
وما بين ماض وحاضر ؛ يتجول الحنين ، وبين يوم وغد ؛ يتبرزخ الأمل مبتسما ، وعينه على الشروق .
بقلمي / سعيد مصبح الغافري ______________________