لم يبخل علينا تاريخنا الإسلامي بمجموعة ضخمة ممن اشتهروا بعلمهم وخلقهم وعملهم النافع، فكانوا خير صفوة، تستحق أن تشتهر بما أنجزت؛ فسطرهم التاريخ بأقلام القدوة؛ ليكونوا صورة مضيئة تُنير درب من سلك على أثرهم وحفظ لهم بصمتهم في الحياة؛ لنفعها للأجيال من بعدهم حتى أصبحت سيرتهم محل تنافس الكتاب، ليكتبوا عنهم درراً مما تركوا.

فرحم الله جيل عمل فاستحق أن تكون له بصمة، يشتهر بها في أجيال من بعده ، أما الآن في عصرنا الحاضر فمع تغير الكثير من المفاهيم ، فإننا نجد أنه قد انقلب مفهوم الشهرة من المعرفة والبصمة الخالصة، الفوائد والإنجازات إلى لمسات متعددة، تجمع بين ألوان مختلفة من هوامش الحياة وشؤونها، دون أن تحمل في ثناياها فائدة يستنسخها من يشاهدها أو يلتمس منها نفعاً.

المشكلة أن بعض أهل الشهرة رغم سطحية ما اشتهروا به أصبحوا هم القدوة للكثيرين ، بغض النظر عن نوعية ما اشتهروا به أو نفعه فلم يعد مستغرباً أن نشاهد عبر برامج التواصل يوميات بائسة تحوي كل شيء عدا القيم والفائدة، فتبدأ من قهوة الصباح، وتمتد حتى إطفاء آخر مصباح في البيت، في صورة متكاملة تُظهر أمراً واحدا وبشكل جلي، وهو مقدار الفراغ الروحي والنفسي الذي يعيشه طالب هذا النوع من الشهرة، وكذلك متابعيها رغم كثرتهم.

نعم للشهرة بريق خطف أفئدة الكثيرين فأصبح هاجسهم تلميع أنفسهم، وإبراز نرجسيتهم لا بشيء قيم، بل بسلوكيات غريبة وفكاهات سخيفة، وأنماط من التباهي برحلات ويوميات لا تقدم ولا تؤخر لهم، ولا لمن يشاهدهم؛ حتى أصبحت هدفاً في حد ذاتها لا للمتعة، إنما لإظهار المتعة الزائفة فيها، والحصول على المتابعين والشهرة، ويجتهدون في سبيل ذلك، ويبذلون من أجله الكثير من غالٍ ونفيس حتى لو اقتضى وصولهم لسلم الشهرة، أن يجعلوا من أنفسهم أضحوكة للمتابعين فلا اعتبار للوسيلة؛ لأن الهدف ثمين بالنسبة لهم، حتى صار المثل الغاية تبرر الوسيلة منهجاً يتنافسون على مبدئه فنجدهم بذلوا أوقاتهم وسخروا أفكارهم للصعود على سلم الشهرة.

وهكذا أصبحت الشهرة للكثير خصلة سهلة المنال، فهي لا تحتاج لعلم ولا تميز خلق، ولا حتى ثقافة؛ لكونها فارغة المحتوى حتى أصبحت ظاهرة مرضية، ووباءً اجتماعيا سريع الانتشار، يتنافسون عليه ويتباهون بكثرة المتابعين لا بمحتوى ما قدموا وباتت وسائل التواصل الاجتماعي من أهم أدوات الشهرة؛ لتوثيق كل لحظة وكل حدث، وبشكل مباشر مع إمكانية التفاعل مع المتابعين، ومعرفة ردود أفعالهم تجاه كل حدث.

حتى وصل للحد الذي أشغلهم عن الأمور المهمة، والحياة الطبيعية المعتادة؛ لتكون حياتهم جذابة للمتابعين، بقدر ما فيها من تمثيل واصطناع للأحداث واللحظات الجميلة مما أدى لانتشار هذا الهوس وتأثيره على جوانب الحياة
المختلفة، واحتلاله للكثير

ومع ذلك فالشهرة ليست عيباً نحتاج للتخلص منه، بل نحاول أن نجد لانفسنا مكانة، وصورة لامعة، لكن باحترامه لانفسنا أولاً، وبسلوك يضيف له قبل الآخرين لمسة نافعة، فنحن بحاجة لتعديل مساره من كونه غاية إلى وسيلة لغاية ذات قيمة، ووسيلة لنشر الفضيلة أياً كانت.

لكي نكون قدوة لجيل القادم حتى لا تصبح مخالفة العلم مقوماً للشهرة، بدلاً من العلم وكذلك مخالفة الثقافات الاجتماعية بدلاً من تعزيز قيمها فما أجمل الشهرة عندما تكون رداء العلماء والمثقفين، وأداة لنشر العلم النافع والفكر الراقي، وما أقبحها عندما تكون رداء الجهلاء، الذين صنعوا منها بلاء بحاجة للدواء..

منقول،،