لم تكن تلك النظرة سوى الشرارة التي اوقدت في داخلي شعورا زلزل كياني في لحظة على حين غفلة كان مستبعدا لإعتقادي بأن ذلك لا ينتج عنه سوى آلاما كنت أرى أنني في غنى عنها..
ربما كان هذا المبدأالمتطرف يصنع في داخلي حواجز تمنع تسرب كل ما يمت للحب بصلة الى روحي ، أدت الى تصلب كل مشاعر قد تنبض ذات غفلة تجاه الأنثى لسنوات علها تكون اكثر عددا مما اتصور.
وقوعي في ما يحب البعض تسميته بالحب كان عن طريق صدفة ندمت عليها فيما بعد لإدراكي أن تلك الصدفة او المصادفة كانت سببا في جر الكثير من المتاعب التي كنت اخشاها طيلة سنوات عمري.
سنوات عمري تلك التي نفضت عنها ما يسمى بالمراهقة وأفول مرحلة الشباب التي انسلت من بين اصابعي في سنوات غفلة كنت أحسبها شيئا ذا قيمة.
ذلك التناقض الذي اجده كموج يتلاطم في داخلي نتيجة كل المباديء التي كنت اعتنقها سابقا وما يأخذ بوجه البوصلة الى قبلة أخرى من الحياة الآن ربما يعكس رغبة موأودة وهنت جذوتها مع مرور الايام للولوج الى عالم آخر من الرضا وواقع أكثر جمالا مع الحب يدعم حياتي التي لم اعشها كما ينبغي لفرط الغطرسة الساذجة والتي بدت لاحقا كسراديب مغلقة ، فرضت على روحي قيودا ظلت آثارها باقية كندوب تذكرني بأن بعض المباديء تفتك بكل شيء جميل في هذه الحياة.
ربما تلك النظرة التي غيرت مجرى كل شيء في حياتي خلقت وهجا ساطعا بل نفخت روحا جديدة في كياني سرعان ما تحول إلى مشاعر حب لم أعهدها منذ زمن، ذلك الحب الذي تحول مع مرور الأيام الى قيد مصنوع من حرير إلتف حول قلبي لم أستطع أن أصارحها به كما ينبغي ، فما أجده من مشاعر تجاهها لم تجده هي أبدا ولكنها - وأقدر لها ذلك كثيرا - ما رغبت في إن تجرح مشاعري - كما فهمت - فصدت ذلك الموج الأهوج من المشاعر بلطف مغلف بحزم لم أشأ استيعابه فقد كان يحدوني الأمل في أن تغير رأيها ذات يوم.
وصولي متأخرا الى المستشفى حتم علي السير مسرعا في احدى ممراته ، لم يكن في بالي حينئذ شيء أهم عندي من وصولي بأسرع ما يمكن الى القسم الذي أعمل فيه ، كانت الساعة تشارف على الثامنة إلا ربع صباحا ، لم يحدث أن تأخرت طيلة الخمسة عشر عاما التي قضيتها في هذا العمل ، كنت مثالا للموظف المنضبط.
كل ما كان يجول في بالي لحظتها هو ردة فعل الموظف المسؤول وسيل الأسئلة التي قد يمطرها علي حينما أصل ، في الحقيقة لا يوجد لدي أي جواب لكل الاسئلة تلك ، كل الكلام تبخر وكأن الحروف لم تخلق بعد ،
قطرات عرق بارده تمردت على تماسكي المزيف وبدأت تندي جبيني تكشف ذلك الارتباك الذي أحاول جاهدا أن اخفيه ، خطوات متسارعة يخال للناظر إلي وكأن اشباح تطاردني ، أحسست بإن الوقت يمر سريعا كالسهم المنطلق والمكان أبعد مما كان ، في خضم كل ما أنا فيه سمعت إسمي كهاتف يناديني من بعيد ، صوت يبدو كنغمة رقيقة ، ذبذباتها ترتطم بمسامعي ، إلتفت إلى حيث الصوت محاولا أن اتمالك و اسيطر على لهاثي ، وأمسح حبات العرق التي باتت تتحدر بشكل لافت على جبيني تجتاح قسمات وجهي ، من هذا الذي يناديني الآن ؟
ياالله!!!
(وذات دل كأن البدر صورتها) كما قال ابن برد..
من هذه ؟
- صباح الخير استاذ صلاح.
- أهلا صباح النور.
- خيرا... ما بك تلهث هكذا ؟ هل أنت بخير ؟
- لا شيء.. لا شيء.. فقط تأخرت عن العمل.. بالأذن منك فأنا مستعجل.. أووه.. معذرة عزيزتي فأنا لم أعرفك بعد!!
ابتسمت ابتسامة حسبتها عميقة وحلوة وهمت بالانصراف ثم قالت وهي لا تزال على ابتسامتها : لا تزال الساعة السابعة الا ربع ، وانصرفت.
في الحقيقة لم اكترث لحظتها كثيرا لمسألة الوقت بقدر انبهاري بذلك الملاك الذي كان معي قبل لحيظات قلائل.. سؤالي الذي أخذ يتردد كثيرا في ذهني : من تكون ؟
-صباح الخير استاذ صلاح.. ما بك ؟هل اضعت شيئا ؟
- صباح النور.. نعم اضعت.. لا لا اقصد نسيت هاتفي.. لا ادري اين!!
- الوقت لا يزال مبكرا على موعد الدوام.. اظنك على غير ما يرام.
-ابدا عزيزي انا بخير.. استأذنك.
لم استطع أن ازيح صورتها من على خيالي ، كل تفاصيل وجهها تبرز كلوحة ملائكية بين ناظري تطاردني ، وكأنها هي!!! لا لا.. لا أظن أنها هي!! هل يعقل.... ؟؟
أسئلة كثيرة تخترق صدري وأنا اقف امامها عار لا أملك لها اجوبة..
يممت نحو القسم الذي اعمل فيه وبالي مشغول ، سبحان مغير الاحوال ، ما يشغل ذهني الآن يختلف تماما عما كان يشغله قبل قليل ، اشعر كمن انفصل عن عالمه كلية ، كل تفكيري منصبا في ذلك الكائن النوراني الذي صادفته وكلمته وكلمني ، نعم كان كل شيء حقيقة ، لم اكن احلم بل كل شيء كان واقعا.. خطواتي بدت ثقيلة وكأن قدماي متمغنطتان نحو تلك البقعة من الممر المؤدي الى حيث لا أدري الآن ، عطرها لا يزال يملأ أنفي ،شعرت بدخون أنفاسها - رغم المسافة الفاصلة بيننا- سحر يأخذني إلى عالم لم أعهده من قبل ، بل ربما.... كادت نظارتي ان تسقط من على وجهي لفرط التعرق المتحدر من على جببني ، سرت نحو القسم الذي أعمل فيه وكأن شخصا آخر غيري ، سؤال كبير في ذهني يتمدد بلا إجابة كالبالون يكاد ينفجر بما فيه ، من هي ؟ أيعقل أن تكون.... ؟؟!!!
لم أجد إجابة لسؤالي.
..........
مرت نصف ساعة وأنا أقف أمام خزانة خشبية مكتظة بالملفات محاولا العبث بمحتوياتها كي أبعد تلك الصورة الآتية من سحابة ماطرة هطلت بغزارة على كل ذرة في كياني وحولته الى قلب ينبض على غير عادته لاهثا كذئب مفترس يحاول اللحاق به .
صوت رقيق يداعب مسامعي كمعزوفة سيمفونية تدغدغ مشاعري ، صوت يكاد يكون مألوفا لدي بعض الشيء!!!
- هل تحتاج إلى مساعدة ما ؟
- لا.
- أأنت على ما يرام ؟
- نعم نعم أنا بخير.
- حسنا ، لو احتجت الى أي مساعدة أخبرني من فضلك.
- شكرا لا احتاج الآن الى شيء.
لم ألتفت الى الشخص الذي كان يعرض علي المساعدة بالرغم من رقة ونعومة صوته، فما كنت لأهتم لشيء أكثر مما يحيرني ويذهب بكل تركيزي.
مجيء زميلي محمود بدد كل ذلك الهدوء ، دخل كعاصفة اقتلعت ذلك الشرود من جذوره ،سؤال صعق ذهني وكاد ان يوقف قلبي بادرني به وهو يبتسم :
- هل تتذكرها ؟
- أتذكر من ؟
- بثينه!!!
- لا أفهم سؤالك!!
- التي كانت تقف الى خلفك قبل قليل وتكلمك.
- بثينة ؟ لم أرها!!
- لأنك لم تلتفت حينما كانت تحدثك!!!
- وما أدراك بذلك ؟ هل كنت تراقبني؟
- أبدا ولكني طلبت منها أن تأتيك لعلك تتذكرها!! ولكن على ما يبدو أنك كنت في كوكب آخر هههه.
- أتهزأ بي يا محمود ؟ ثم من بثينة هذه التي تتحدث عنها ؟ أنا لا اعرفها ولم أرى اي بثينة!!
- هي نفسها التي كانت تتحدث معك في الممر صباحا.
- ماذا ؟ هل تقصد أنها تعرفني ؟
- ما بك يا صديقي ؟ هي بثينه زميلتنا أيام الجامعة.. كانت دائما تجلس في المقعد الذي أمامنا... انها...
- يا الله!!
- أهي حقا ؟
- نعم انها ذاتها.. وعليك أن تصحح الموقف فلا يصح انها كانت تكلمك وتعرض عليك المساعدة ولم تعرها اهتماما بل ولم تلتفت اليها حتى.
بثينة تلك الفتاة الانيقة دائما رغم بساطتها الا انها كانت كالقمر الساطع بين نجوم في ليلة مظلمة ، ابتسامتها فجر يشق بخيطه الابيض ليلي ليبدد ظلامه عن روحي المتيمة بها عشقا. ما كانت لدي مقدرة على البوح بمشاعري أمامها خوفا من ان تخذل قلبي المتلهف لها دائما.. فضلت الصمت وسجنت احاسيسي في قمقم الخوف والتردد ، عانيت كثيرا لدرجة ان كانت المعاناة جزء من تفاصيل حياتي ، بعد التخرج اختفت وكأنها لم تكن بيننا ،لم تأت الى هذه الدنيا ، كانت محض طيف مر كالكرام ثم تلاشى..وتلاشى معها كل شيء سوى مشاعري التي حاولت وأدها لأستريح من كل تلك المعاناة التي لا تدري هي عنها شيئا ولا احد يعرفها غيري.
.......
لم أنم ليلتها ، احداث اليوم كانت كفيلة بقلب كل موازين حياتي ، صورتها لم تفارق مخيلتي ، أراها في المرآة وكأنها تتلبسني ، أكلم خيالها كما كنت افعل ايام الجامعه ، كنت جبانا ،لم أجرؤ على مفاتحتها بما يعتلج في داخلي ، استعيض عن ذلك بالحديث الى طيفها الذي يعيش في مخيلتي ، اصارحه بكل شيء ، أقرأ عليه قصائدي التي كنت اكتبها فيها ، كانت تسمعني جيدا ، تسمعني وهي تبتسم وأنا أقرأ عليها قصائد الحب التي اكتبها لها وحدها ، وحدها فقط ، كل القصائد كنت اكتبها لها هي ، لم يسمعها احد غيرها ، ومنذ اختفت اختفى معها كل شيء ، حتى القصائد تلاشى منها حبرها ، اصبحت بلا حبر وبلا روح ، لتعود بعد خمسة عشر عام لتنبش كل ما حاولت دفنه طيلة السنين التي مرت بصعوبة ، ورغم زواجي الذي دام خمسة اعوام الا ان طيف بثينة كان حاضرا دائما في مخيلتي ، ربما فهمت زوجتي ما كنت اعانيه من عدم قدرتي على نسيان فتاة ما لا تعرفها ولم تستطع ان تعيش مع خيال زوج لم يكن حاضرا منه الا جسد رجل بلا روح ، انفصلنا ثم ذهبت ، اختفت نهائيا وكأنها لم تكن في هذه الحياة ذات يوم ، حاولت أن أخرج من عباءة بثينة ولم يكن ذلك بالأمر السهل ، تطلب من عمري سنوات عديدة ، عادت بعد كل هذا العمر إمرأة اخرى ، لدرجة اني لم اعرفها لأول وهلة ، ربما لأن كل أمل لي برؤيتها من جديد قد انتهى وتلاشى ولم أتوقع ان تكون الصدفة هي من ستجمعنا بعد كل تلك السنين.
...........
على غير العادة تهندمت وحاولت أن أتأنق بقدر المستطاع ، مؤملا نفسي بحياة جديدة بدم جديد يحيي شراييني التي كادت ان تنسى انها لا تزال على قيد الحياة ، بالرغم من مفارقة النوم لعيني طيلة البارحة الا اني اجد قلبي كطفل شقي لا يهدأ ، انظر الى المرآة مرارا كي اعدل من شعري تارة ومن هندامي تارة اخرى ، لا اريد اليوم شيئا يفسد لهفتي ، اليوم لن أضيع الفرصة كما ضيعتها من قبل ، لن أكن جبانا ، سأكلمها عن مشاعري، عن لهفتي ، عما كنت احمله بين ثنايا قلبي عندما كنا ندرس في الجامعه ، عن الحنين ، عن كل شيء.
..........
وصلت الى المستشفى الذي اعمل به اسير منتشيا على غير العادة ، قلبي يتقدمني ، يشير إلي لأتبعه ، أتبعه هو فقط لا غيره ، تمنيت أن اصادفها كما بالأمس ، أتلفت حولي لعلي أراها هنا أو هناك ، لا أجد لها ريحا ، وصلت الى قسمي لأجد زميلي محمود وهويبتسم ابتسامة عريضة ويبادرني بصباح الخير ،
- أني أرى صلاحا غير صلاحنا.
- ماذا تقصد بهذا الكلام يا محمود ؟ اني أشم رائحة خبث في كلامك!
- لا خبث ولا يحزنون ولكني اراك على غير عادتك متأنقا والعطر نشمه منك من على بعد.
ماذا يحدث ؟
- لا يحدث شيء.
.........
انتظرت وصولها كمراهق على موعد مع فتاته ، لا اريد لمزاجي أي تشويش هذا اليوم ، سيكون ما لم استطع فعله منذ خمسة عشر عاما ، سأعتذر لها أولا عن فعلتي الشنيعة لأني لم ألتفت لها حينما كانت تكلمني ، وبعد ذلك...
بعد ذلك ماذا ؟ سأشرح لها ما أكنه لها من حب وما عانيته في غيابها عقب تخرجنا من الجامعة ، سأوضح لها أنني كنت أخشى من ردة فعلها ان فاتحتها حينها وفضلت الاحتفاظ بصورتها طيبة جميلة في قلبي على ان تردني خائبا ، لا أريد أن أضيع الفرصة مجددا فإن ضاعت فسيضيع معها كل شيء.
....
- صباح الخير استاذ صلاح.
- اهلا وسهلا صباح النور وفاء.
- على غير العادة أجدك اليوم.
- فيم ؟
- أشعر بأن هناك شيئا يشغل على تفكيرك أو ربما لا أدري.. هل أساعدك بشيء ؟
- لا شيء.. لا شيء.. فقط أود أن أسأل سؤالا لو تأذني لي!!
- ولماذا تحدثني بشكل رسمي ؟ إسأل ما شئت.
- هل رأيتي الآنسة بثينة ؟
- الآنسة بثينه ؟ هل تقصد الموظفه الجديدة لدينا بالقسم ؟
- نعم عينها.
لا.. لا أظنها ستحضر لدوام هذا اليوم!!
- لا تحضر ؟ لماذا ؟ مالذي حدث ؟
- لا أعلم ولكنها اتصلت تخبرنا بأنها لن تتمكن من الحضور لظروف عائلية.
- ظروف عائلية ؟ هل تقصدين والديها ؟
- لا أعتقد ذلك. قد تكون ليست على ما يرام!!
- ماذا تقولين ؟
- لست متأكدة.. ربما.
- ربما ماذا ؟
- ظروف عائلية كما اخبرتك.. هي لم تخبرنا بشيء سوى انها لن تأتي للدوام.
........
شعرت بدوار يغشاني وظلمة تملأ أرجاء المكان ، رأسي سينغجر ، أرتميت على المقعد وذهني مشتت ، لا أستطيع التركيز أو حتى التفكير في أي شيء..
-هل أنا غبي ؟ هذا السؤال المستفز هو المسيطر الآن على كل كياني، يخنقني ، يشعرني بمدى حمقي وسذاجتي.
نعم فأنا أحمق بالفعل فكيف لي أن أتخيل بأن الفتاة لا زالت كما هي منذ خمسة عشر عاما لم تتغير ، هل توقف الزمن عندها وبقيت كما هي ؟ ما هذا التفكير الأخرق ؟ لا.. لم يكن تفكيرا !! في الواقع أنا لم أفكر ، لم أتأن أبدا.
.........
لا أدري كيف مر الوقت علي في ذلك اليوم ، كان صعبا ، كان جل تفكيري يتركز في امر وحيد وهو مفاتحة بثينة بلواعج قلبي ، مشاعري التي كانت كجمر تحت رماد برزت عند اول ظهور لها من جديد في حياتي ، ظننتها كما تركتها ، وقد تركتها دون ان اخبرها بما في نفسي تجاهها ، لا ألومها فهي لا تعلم ما كنت أشعر به ، لا تعرف أني كنت أحبها.. أحبها كأعظم شيء في حياتي ، تركتها تذهب من غير أن أجرؤ على مفاتحتها بأي شيء.
.....
شرودي المستمر كان هو الشيء الملاحظ من قبل الجميع في القسم الذي أعمل فيه ، تغيري المفاجيء والذي أدى الى بعض التقصير كان ملفتا لانتباه زملائي ،
لم يكن زميلي محمود ببعيد عما يحدث ، ولكنه فضل عدم ازعاجي بتدخل منه لاستقصاء حالي المرتبك.. جل تفكيري منصب حول بثينة.. كيف للأقدار أن تضعها من جديد وبعد كل هذا العمر في طريقي!!
مشاعر مشتعلة لزمن طويل بدأت منذ سنوات قلائل بالخفوت ليستريح هذا القلب من عناء حب لم يكتمل ، عادت لتبعث ما كان قد قارب على الموت فعلا ، بفضل التقادم ومرور السنين ، ما يحدث لي الآن أمره غريب ، في يومين فقط تشتعل نيران الماضي لتأت بأخضر القلب ويابسه من غير رأفة أو تأني.
......
- صباح الخير استاذ صلاح.
- صباح النور ليلى.
- أعتذر منك فلربما أزعجك قليلا ، ولكني ألاحظ بأنك مشغول البال ، على غير عادتك ، لو تود أن أساعدك في ما يشغلك فأنا تحت أمرك.
- لا إزعاج يا ليلى ، وددت أن أسألك عن بثينة ، الموظفه الجديدة لدينا ، هل تعرفينها ؟
- بثينة ؟ نعم أعرفها جيدا ، إنها جارتي ، تسكن في الشارع المقابل لبيتنا.
- جيد ، هي لم تحضر اليوم إلى العمل ، هل حصل لها ما يعيقها عن الحضور الى المستشفى ؟
- ربما ، أقصد لست متأكدة ولكن قد يكون لديها عذرها.
- ألم تتصلي بها للإطمئنان عليها ، إنها زميلتنا ؟
- بالفعل يجب علينا الاطمئنان مع أني أعرف ظروفها الأسرية الصعبة وما تمر به منذ فترة.
- خيرا!!! ماذا بها ؟
- لاحقا ربما تخبرك هي بنفسها . سأتصل بها وأعود إليك.
......
ظروف اسرية صعبة ، ما هي هذه الظروف الصعبة التي تمر بها ؟ آه يا ليلى!! كلامك حيرني ، كنت أتمنى أن أسمع ما يريح قلبي ويثلج صدري.
لماذا بدأت الأمور تتشعب وتأخذ لها طرائق مشتته ؟ تغيب بثينة لمدة طويلة وفجأة تعود بلا أي مقدمات ، تنبش الماضي وتشغل القلب ثم تختفي فجأة ، ثم اتفاجأ بظروفها الصعبة التي لا أعرف ما هي. ماذا يحدث بالضبط ؟
...
أسبوع كامل مر ثقيلا كصخرة تضغط على قلبي ، تمنيت خلاله مرارا لو لم تظهر بثينة في حياتي مجددا ، كل ما أطلبه الآن بعض الهدوء وأن يعود الى روحي توازنها ، وأنى لها التوازن والهدوء بعد أن تناثر رماد كان يحيط بها لتبين جمرات الماضي من تحت ذلك الرماد الذي تراكم على عاطفة لم يكن لها أي عوامل صحيحه لتنمو وتترعرع ذات يوم.
أأكذب على نفسي حينما أوهمتها بالحب ونحن على مقاعد الدراسة ؟ هل كنت أخدع قلبي وأنا أعرف بأني ما كنت لأجرؤ على القيام بخطوة ولو كانت ضئيلة للأمام لأبرهن لنفسي أولا بأن ما كنت اعيشه هو الحب صدقا ؟
والأهم الآن هو هل ما زلت أمارس خطيئة إقتراف الكذب على قلبي وأسمي ما أعيشه هو الحب فعلا ؟ أي حب هذا ؟ حُبِّ غَيْرِ مُكْتَمَل النمو!!
.....
- صلاح ، هل أنت بخير ؟
- لم هذا السؤال الآن ؟
- لا شيء ، فقط لأني ألاحظ أنك في شرود مستمر منذ ايام!! هل استطيع مساعدتك ؟
- هل رأيتي بثينه ؟
- نعم ، قبل قليل كانت في مكتب مسؤول القسم!!
- قبل قليل ؟
- نعم قبل قليل!
- لم أرها إذن!!
- ستراها حتما ، انها هنا وستبقى هنا في هذا القسم.
- أحقا ؟
- ماذا هناك ؟
- لا شيء ، يسعدني أنها هنا ، وأكثر من ذلك أنها ستكون معنا في القسم !!
- أشم رائحة " شواط " قلب ( تضحك).
- ما هذا التعبير " الشنيع" ليلى ؟ " شواط" ؟
- صلاح ان كانت لديك أي حاجة للمساعدة أخبرني هههه
- لا.. شكرا لك.
....
أشعر بأن لدى ليلى ما تود قوله لي ، نعم ، كانت تلمح لشيء لم أفهمه ، أبعض من كيد نساء ؟
ضحكاتها على غير العادة ، هل عرفت بأني أحب بثينة ؟ ولكن كيف ستعرف وأنا لم أخبرها ولم أذكر ذاك لأي مخلوق ؟
...
كانت لحظات غير اعتيادية عندما طلبني مسؤول القسم إلى مكتبه ، لا أرتاح له أبدا فأسلوبه جاف وغير مأمون الجانب ، ولكن لا بد لي من الذهاب اليه.
سمعت صوته وهو يأذن لي بالدخول بعدما طرقت باب مكتبه ، دخلت واذا ببثينة تجلس في الكرسي الى جانب طاولة مكتبه ، تفاجأت كثيرا ، لم يخطر ببالي أن أجدها هنا أبدا ، طلب مني الجلوس ، لم أستطع على الكلام ساعتها! بثينة تجلس أمامي وعلى غير ميعاد ؟؟!!
ابتسامتها كانت شمس أشرقت على حدائق روحي لتمنحها الدفء والطاقة ، متأنقة كعادتها ، جميلة وكأنها كأول يوم أراها في الجامعه ، رغم مرور خمسة عشر عاما إلا أنها لا تزال كما هي ، نفس الملامح وكأن الزمن نسي أن يمر على سحنتها الرقيقة فبقيت كما هي ، بريق يشع من عينيها يغريني بالتمعن المفرط فيهما ، هما كما كانا مركز كوني ، نظراتها دافئة ، كأول لقاء لنا في مقهى الجامعة.
- استاذ صلاح ، انها الموظفة الجديدة بثينة ، ستكون المسؤول عن تدريبها على العمل ، هي كانت هنا منذ اسبوع مضى ولكن لظروف شخصية اضطرت لعدم تسلم العمل الى أن تنهي ما كان يعيقها و عادت اليوم ، ارجو ان تعتني بها جيدا.. بإمكانكما الذهاب الآن.
.....
لم أتخيل أبدا ان القدر سيكون بهذا السخاء ، أختصر على عاطفتي المتوترة مسافات زمنية ما كنت لأحلم بها ، حتى ظننت أن ما كان يقوله المسؤول محض تهيئات تعصف بمسامعي لا كلام فعلي يقصده موجه إلي أنا لا لشخص آخر.
ابتسامتها المقتضبة زادت من توتري ، لم استوعب مغزاها ، علامات إستفهام برزت عقب تلك الإبتسامة لم أجد لها مخرجا ، أهو رضا أم تقبل لأمر واقع لا خيار آخر لها سواه ؟
وضعتني في حيرة بددت سعادتي بتوجيهات المسؤول الأخيرة!!
خرجت من مكتبه مستأذنة وكنت ألحظ علامات عدم إرتياح على محياها ، لم أستطع التكهن بسببه.
أستأذنته للخروج ففاجأني بسؤال لم أتوقعه ، هل هناك أمر غير واضح بخصوص هذا الموضوع؟
- أبدا.. سأبذل جهدي لتدريبها.
- لا أقصدك أنت بل هي!!
-لم أفهم ما تعني أستاذ ربيع!!
- أتصور أنك لاحظت أن تقبلها للموضوع ليس مريحا حسبما كنت أتمنى.
- لا.. لم ألحظ اي شيء غير طبيعي ، ربما تكون مرهقة أو مريضة ، أو هناك ما يشغل بالها.
- ربما. أرجو ذلك.
.....
عدة أشهر مرت بعد إجتماعنا مع مسؤول القسم لتلقى توجيهاته بخصوص التدريب ، كنت مهتما بأمر آخر يطغى على مسألة التدريب فأنا مدرك بأنها ذكية وتتعلم بسرعه وهي كذلك بالفعل ، كنت أحاول كسر الزجاج العازل للمشاعر الذي تفرضه على قلبها من ساعة وصولها الى هذا المكان ، لم تكن المهمة باليسيرة فالفتاة التي أحببتها أيام الجامعه دون إشعارها بذاك الحب لم تعد هي التي أمامي هنا كل يوم ، كل محاولاتي لكسر الحاجز تبوء بالفشل ، عدة شهور مرت لم أستطع خلالها فهم نوع العلاقة التي تجمعنا ، مشاعري المتأججة تجاهها كأني أسير بها في نفق مظلم لا أرى بصيص ضوء يشعرني بأمل ولو ضئيل في الوصول إلى منطقة مضيئة ولو للحظة معها ، أهي علاقة حب ، صداقة ، زمالة عمل ، ماذا ؟ لا أدري كيف أسميها ، رقتها التي لا يماثلها شيء آخر دافع للإستمرار في ذلك النفق ، لحظات يأس تحوم حول روحي احيانا احاول أن أدفعها بعيدا ، لا أدري إن كنت أستلذ ما أنا فيه أو ما زال ذلك الطالب الجامعي الخجول هو نفسه الذي يغشاني الآن وأخشى أن أبوح بمشاعري مثلما كنت منذ أكثر من خمسة عشر عاما !!
...
أولى خطواتي المهمه في المعركة المحتدمة في داخلي هي البوح لها ، فانتظار اللاشيء أصعب بكثير من التقدم بخطوة للأمام مهما كانت نتيجتها ، وليكن ما شاءت الأقدار.
مصارحتي لصديقي محمود باعتلاجات الصدر كانت مهمة فثقتي برأيه تزيح بعض الثقل من على روحي المثخنه بالحيرة والتخبط والتوتر.
- على ما يبدو أن المواجهه هي الخيار الامثل وسواء كانت ردة الفعل إيجابية أو سلبية فأفضل لك من الإستمرار في أمر لا تعرف فيه رأسك من قدميك.
- وكيف أواجهها ؟ أخشى من ردة فعلها ان صارحتها.
- إذن فلتكتب لها رسالة.
- ماذا تقصد بأن أكتب لها رسالة ؟
- رأيي أن تستأذنها في أن ترسل لها على هاتفها رسالة تخبرها فيها بأمر مهم وانظر ماذا تقول لك.
- هل تظن بأنها ستوافق ؟
- جرب ولا تستبق الأحداث.
- لا أعرف ماذا سأكتب لها!!
- سأصيغ لك الرسالة وأبعثها لها إن أذنت لك.
.....
لم أتوقع موافقتها على طلبي أن يكون بتلك السهولة ، وبالرغم من سعادتي بتجاوبها الا أن توتر أعصابي حينئذ كان في أعلى معدلاته ، لم أعتد على مواجهة الأشياء ، غالبا ما ألجأ الى السلام النفسي ، خسرت الكثير من الاشياء بسبب هذه السلبية التي تقهر ثقتي بنفسي وتكبلني عن مواجهة الحياة ، نظارة سوداء آن الآوان أن أرفعها عن عيني كي أرى الحياة بألوانها المختلفة ، التنازل المستمر سمة مسجلة بإسمي حتى عن الاشياء التي احبها بشدة ، القريبة من نفسي ، لا أشعر بأي رغبة في أن تكون الحياة مختلفة ، تشابه الأيام يشعرني بالاستقرار النفسي ، ها هي سنوات العمر تمر كالسحاب بلا مطر ، أضع اصابعي على أذناي كي لا أسمع رعود الدنيا ، أختبيء تحت لحافي لاجئا الى الظلام كي لا أرى بروقا قد تهطل بعدها أمطارا ، حياة قاحلة جرداء تسير كما شاءت الأقدار ، لم أفكر في صنع أقداري بنفسي أي يوم ، روح مجهدة تتلاعب بها أمواج محيطات الحياة العنيفة.
آنت اللحظة لأن أكون خلقا آخر ، يمشي تحت أشعة الشمس ، ويركض حاف القدمين تحت انهمار السماء ، رافعا ذراعيه مستقبلا قطرات المطر ، يغني بصوت مسموع ، صوت قد لا يكون رقيقا ولكن يكفي لأن يشعرني بالسعادة ، بحرية الذات ، بالانطلاقة نحو عمر جديد.
.....
قرأت الرسالة التي كتبها محمود ، يا إلهي!!
أقشعر بدني من روعة الكلمات ودقة التعبير ، لم أعدل فيها أي حرف ، الرسالة تعرفها بمشاعري نحوها وطلبي الزواج منها ، وبدون تردد رسلتها لها ، لم يطل الوقت حتى استلمتها وقرأتها.
لا استطيع أن أخفي توتري ، ارتباكي ، لدرجة أني شعرت بالندم ، ماذا فعلت ؟ أظن أني تسرعت كثيرا!!!
لا أعلم كيف مرت ليلتي تلك!!! جافاني النوم لكثرة التفكير!! ماذا سيكون غدا ؟
هل ستوافق ؟ ترفض ؟ تغضب ؟ تنفجر في وجهي غاضبة ؟
كنت مترددا في الذهاب الى العمل! لا أود المواجهه!! لا احتمل صدمة ردها السلبي! ان رفضتني فسينتهي كل شيء إلى الأبد معها!! كيف ستأتي عيني في عينيها بعد ذلك ؟ لا أعلم كيف سيكون الوضع ونحن نعمل في قسم واحد!
...
ذهبت الى المستشفى أجر قدماي كمن يؤخذ للذبح ، كل من قابلني سألني إن كنت مريضا أو حدث لي مكروه ما ، أقابل كل الاسئلة بابتسامة يكسوها الذبول ، عشرات الأسئلة تدور في ذهني ، هل سأعود إلى بيتي منتصرا، سعيدا ، أم هي القاضية التي ستأتي على كل نبضات قلبي وأملي في حياة جديدة تختلف عما كنت عليها ؟
تأخرت كثيرا على غير عادتها ، مما (زاد الطين بله) ، منذ أن وضعت قدميها في القسم وهي ملتزمة لا تتأخر ، ما سبب غيابها الى اللحظة ؟
هواجس كثيرة بدأت تتلاعب بعقلي ، أشعر بأني ارتكبت خطأ ما ، هل تسرعت في إعلان رغبتي بالارتباط بها ، كيف تقبلت الموضوع ؟ إحساسي بأنها مزعجة من تصرفي!!!
....
- عسى الامور تسير بشكل إيجابي ؟
- لا أعلم!!
- والمعنى ؟
- لم أرها ولم ترد بشيء!!
- لم برأيك تأخرت في الرد ؟
- ليس لي دراية بأي شيء!
-هل سألت عنها ؟ ربما لديها ظروف منعتها من المجيء الى الدوام!
- ربما... لا أعلم.
- أنت متوتر الآن ،، إهدأ والأمور ستكون كما تحب.. هل سألت عنها ليلى ؟
- كلا... لم أجرؤ على السؤال عنها.. خشيت من أي صدمة!!
- أترك عنك التردد وإسأل عنها ، ليلى صديقتها ولا شك أنها تعرفها وتعرف عنها كل شيء.
- دعني أهدأ أولا.. لا أحب أن تراني مرتبكا .
- اذن كن هادئا وصبورا ولتدع الارتباك يتجاوزك بهدوء.. ثم اصبر فحري بالصبر أن يحل كل المشكلات.. اغمض عيناك وتنفس طويلا تكن هادئا.
.....
لم أر ليلى منذ ايام ، شعرت بأن لا شيء معي ، ليلى غائبة هي الاخرى ، لم أشعر بوجودها أو أهميتها ابدا ، أمرأة عادية ، في شكلها الغير متجدد، في هندامها الذي يكاد لا يتبدل هو الآخر ، حتى اسلوبها الممل في الحديث ، وتعاملها العصبي الممزوج بالطيبة هو هو لم يطرأ عليه أي جديد طيلة السنوات التي قضيناها في العمل معا ، أشعر احيانا بأنها وجدت على الارض كما هي الآن لم تمر بمراحل نمو حياتيه كما البشر ، عندما تنظر إليك بعينيها الجاحظتين يجعلانك تحسب ألف حساب للتعامل معها ومع ذلك فهي إناء طيبة ، لم تتزوج بعد بالرغم من تخطيها الاربعين عاما ، لا تخجل من ذلك عندما يمازحها أحدهم بقوله ستجدين الزوج الذي يسعدك ، تنظر له نظرة مرعبة ثم تتنهد و تقول : أنا منحوسه وتذهب.
كلمة ( انا منحوسة) أصبحت لازمة تكررها كثيرا.
لا بثينة هنا لتريح قلبي من هم الانتظار ولا ليلى لأسألها عنها.
......
" عزيزي صلاح.. تحياتي لك على شعورك الجميل تجاهي ولكني اعتذر منك لعدم قدرتي على تلبية طلبك"
رسالة مقتضبة صادمة تنهي بها كل شيء ، لم استطع استيعاب ردها هذا للوهلة الأولى ، شعرت بأن قدماي لم يعودا قادرين على حملي جلست على كرسي كان الى جانبي مترنحا،
لماذا ؟ لماذا ترفضني هكذا ؟ أما كان الأجدر بها أن تاخذ بعض الوقت لتفكر ؟ هي لا تعلم شيئا عن حبي لها نعم!! ولكن ما سبب الرفض ؟ آه يا بثينة لو تعلمين عما أحمله لك
ان في قلبي احاسيس ومشاعر تضطرب كلما رايتك ، فكأني أريد أن أختفي من هذه الدنيا ، واندمج في روحك ، لأن نفسي تواقة إليك ، مولعة بك فأصبحت لا استطيع أن استغني عنك فرفقا بي ، بيديك سعادتي ، ترفضين قلبي قبل أي شيء آخر ، حيث تجهلين ما أحياه رجوعك من جديد الى عالمي ، إلى روحي الذابلة ، الى انكسارات الأيام ، وقفر السنين ، لا تدركين معنى الرفض هذا ، مدية غائرة في روحي تدمي شراييني بلا رحمة أو شفقة.
......
- ماذا حدث ؟
- لا شيء!!
- بل حدث أمر ما قلب حياتك رأسا على عقب!!
- لم يحدث أي شيء!!!
- هل جاءك رد على رسالتك من بثينة ؟
- بلى!!
- لا بد أنها رحبت بك وهذا من هول المفاجأة!!
- رفضتني ، رفضت حبي، رفضت الارتباط بي ، غرست سكاكينها في قلبي وذهبت!!
- ماذا تقصد ؟
- كل شيء انتهى يا صديقي!!
- لا تتعجل في الحكم عليها ، لا بد من معرفة السبب.
- وماذا يفيدني إن عرفت السبب ؟
- ربما تعذرها.
- أنا لم ألمها كي أعذرها.
- أظن من الأفضل أن تستأذن لتذهب الى البيت وترتاح.. أنت مرهق الآن وتلزمك راحة لبعض الوقت.
......
الصدمة التي تلقيتها بدأ مفعولها يستشري في كل كياني ، لم أستطع النوم ولا أستلذ طعم الأكل ، كل تفكيري كان منصبا في رسالتها التي كانت كقذيفة أتت على كل مشاعري تجاهها ، عجلة تدور ببطء لا تتوقف ، يعود بي تفكيري إلى سنين عديدة مضت ، أمامي هي ولم أجرؤ على البوح وظل حبي لها حبيس فؤادي لم تطلع عليه ، كنت أتخيلها أمامي ونحن في مقهى نستمتع بلحظات لا تشبهها لحظات أخرى ، كثيرا ما كانت تحدث بيننا لقاءات نخلق فيها كل جماليات اللحظة ، ليل هاديء ، موسيقى رومانسية ، فازة ورود ذات ألوان مختلفة تتوسط الطاولة بيننا ، همساتها تشبه صوت طائر الكناري ، وأصحو بعد كل حلم اعيش فيه معها أجمل لحظات عمري لأستيقظ على حقيقة أنها ليست هنا ، لم تكن معي ، وربما لن تكون معي ذات يوم ، مرت سنوات الدراسة كلها وأنا أذوب في داخلي عشقا لم يكتب له التحليق في سماءها ، لم يشأ له أن يكون هناك طرف آخر حقيقي سوى أنها هنا أراها أمامي كل يوم ولا يكون لي شيء سوى أني أراها ، بلا كلمة مني أعرفها بها أني أحبها ، أعشقها بكل ما أوتيت من حواس ومشاعر وعاطفة ، لم أقدر على تفسير ما كنت فيه من تردد ، أهو جبن ؟ أم خشية أن اصارحها فترفضني وأصحو من حلم يعذبني وأستعذبه ؟ لا تبرير لدي أفهمه، كل ما أعرفه أن كل شيء تلاشى ، أختفت كذرة ملح سقطت في ماء ، لتعود بعدها ويحدث ما كنت أخشى حدوثه ، أقدار أجلت لحظة المواجهه لخمسة عشر عاما ، نار خمدت تحت رماد وبقي جمرها مشتعلا ينتظر لحظات الاشتعال ، لتشتعل بعد كل هذا العمر ، ويذهب كل شيء في لحظات ، مجرد رسالة هاتفية من بضع كلمات تقتل بها كل شيء.
......
- يؤسفني ما جاء في رد بثينة أخي صلاح.
- قدر الله وما شاء فعل.
-هو كذلك وأتمنى أن تتجاوز ما أنت فيه سريعا.
- لماذا جاء ردها بهذا الشكل ؟
- أتقصد عدم تجاوبها مع طلبك ؟
- إظنك ستعذرها لو عرفت السبب.
- وما هو السبب ؟
- بثينة كانت متزوجه من شاب رائع ، به كل ما تحلم به الفتاة من مواصفات ، أو كما يقولون ( فارس الأحلام) ، عاشا معا حياة سعيدة ، أنجبا خلالها طفل واحد ، وبلا مقدمات توفي زوجها ، قيل أن سبب وفاته هبوط حاد في الدورة الدموية لم يجد ساعتها من ينقذه ،
عاشت بثينه وطفلها في مأساة الفقد بلا وصف ، لم يكن سهلا عليها أن تفقد زوجها في غمضة عين هكذا ، عانت كثيرا ، أكثر مما تطيق فتاة في عمرها ، ظلت لسنوات حتى أستطاعت تخطي بعضا من محنتها ، وأقول ( بعضا) لأن المسألة ليست بالهينة ، انتسابها للعمل هنا في هذا المستشفى جاء كمحاولة للخروج مما هي فيه ، كي تستطيع العناية بطفلها ، على الأقل من الناحية المعنوية وتربيته بعيدا عن المعاناة العاطفية التي مرا بها..
- أتقصدين أن طلبي جاء في وقت غير مناسب ؟
- لا أريد القول بذلك ، فرغم معرفتي بكل ظروفها إلا أنني لم أشأ أن أصارحك بكل هذا.
- والسبب ؟ أليس كان الأجدر بك أن تخبريني بحكايتها لأختار وقتا أنسب من هذا كي لا تضيع مني بهذه السرعة ؟
- كان تفكيري منصبا في كيفية إخراجها من واقعها المرير ، لعلها توافق لتبدأ حياة جديدة مع رجل يحبها ولكن حدث ما حدث.
- حدث ما حدث!!!
- لا تعلم فلربما تأت الرياح كما شاءت سفنك اخي صلاح.
- وسأعيش على " ربما" هذه إلى متى ؟
- يا رجل لا تكن متشاءما هكذا ، فربك يغير من حال إلى حال... ورأيي أنه كان تصرفا جيدا منها أن لم تبقيك على أمل قد لا تستطيع تحقيقه.
- ربما لا تدركين مدى احساسي بالندم على تلك الخطوة التي قمت بها فما عانيته لسنوات من فقدانها كان حري بي أن لا أغامر بالخوض في معمعة قد أخسر فيها هدوء نفسي الذي استعدته بعد فترة طويلة من اللاهدوء والا إستقرار عاطفي ولكن أحيانا ننجر خلف عواطفنا لا نأبه بما قد سيؤول إليه هذا الإنجرار من آلام تأخذ من حياتنا الكثير.
- رأيي أن تهدأ ، خذ نفس طويل ، ولو كان بالإمكان أن تبعد قليلا حتى ترتاح وتستعيد هدوءك النفسي ، وخسارة جولة لا يعني خسارة معركة.
- بقلمي / خليفة سالم الغافري