شلة مطعم درويش
كم هو الشوق ضربا من الجنون .. اتجرعه ليل نهار.. يكاد ان يتحول الى سم قاتل.. تكاد الغربة ان تعصف بي .. يكاد الغياب ان يصبح سرمديا .. مدى ما له نهاية .. سفر بلا حدود .. غربة مظلمة .. تطويها اسوار عالية .. أبواب لا تعرف الريح ..نوافذ يحيطها الظلام.. وجوه واجمة..صبر يشبه الليل.. لم تحتمل ذاكرتي وجع الحنين لاولئك الرجال .. يطوفون افق خيالي .. ليل نهار .. حتى الاحلام .. كانوا طرفا فاعلا فيها .. اتذكر تفاصيل جلساتهم هناك بعد الغروب .. اكثر من ثلاثين عاما.. لايزالون معا .. لايزالون صغارا ..اتذكر ذلك الزمن الجميل.. أتامل المكان ... اتذكر الجوع .. لم احتمل الشوق .. اتجاهله في الغالب .. اسماء محفورة في سطور دفتري .. وكلماتي الحزينة .. ووحدتي .. لم أكن ادري .. أن الزمن يطوي صفحة .. ويفتح اخرى .. لم أتوقع .. نهاية القصة .. وبدايتها .. قد تكون حكمة الزمن .. واقدار هذا الدهر .. لم أتوقع عودتي من السفر .. اجلس بينهم .. اسمع حكاياتهم .. يستمعون لحكاية سفري .. وغربتي.. لم يستوعبوا قصة غربتي في الغالب .. تبدو غريبة الى حد ما .. لم يتوقعونها .. لكنهم على وعد .. ان الصبح قريب .. والموعد قريب ..والسفر الى هناك قريب .. الى كوخ العجوز .. التاريخ لن يرحم احد .. ولن تبارح الذاكرة حكايات شلة مطعم درويش .. لا يزال ذلك الاعمى يقود كرسي صديقه المشلول .. لم يبارح ذلك الصديق كرسيه طول اليوم هو الاخر.. لانه لم يعد يشعر برجليه .. يستخدم حاسة النظر .. كما يستخدم الاخر حاسة اللمس فقط ..تجمعهما الابتسامة .. اشجان الحديث.. يجمعهم السفر .. كراسي المطعم .. هموم الطريق .. يفرقهم شتات الزمن والتاريخ .. يتبادلون حكايات واحاديثا في طريق مسيرهم الى جلسة مطعم درويش .. احيانا لا يجدون احدا .. يجلسون في كل الاحوال .. يطلقون همومهم .. اسماء تظل عالقة في عمر السنين لن تكرر ..لايزال مطعم درويش كما هو .. لايزالون كما هم يتذكرون تفاصيله.. احدهم جلس في زاوية بعيدة.. يفكر في امر ما .. يمسح ذقنه .. يبدو قلقا لامر ما ..ابتعد عنهم قليلا.. سافر بعيدا .. في احدى الليالي .. قام درويش بالمرور عليهم .. يحمل أشياء جميلة .. واخبارا سعيدة .. اثار استغرابهم .. لم يكن كذلك .. كانت تفوح منه رائحة غير زكية..عاد الى مكان لايزال يحمل اسمه.. شلة مطعم درويش .. رمزا وفخرا للضيافة .. لم يكن يخجل من اسمه .. حتى لو كان قديما .... لا يزال يحتفظ بابتسامته .. لم تظهر على وجهه ملامح التغيير .. يبدوا انه الان اكثر قبولا بينهم .. رغم غضبه.. بسبب حرمانه من اللعب معهم.. حينما كان صغيرا .. يتذكر ألم العصا .. جلس بقربهم .. يحتسى فنجان شاي .. يتحدث سريعا .. قام سريعا .. اختفى سريعا .. لم يتغير درويش .. هذه طبيعته .. تركهم يتبادلون اطراف الحديث .. يحملون هموم الزمن ..يتذكرون ماضيهم العريق .. يسألون احيانا .. دون جواب .. يحللون .. يأولون ..يصلون الى درجة من عدم الاقتناع .. يقهقهون .. دون اسهاب .. اسماء تذهب واخرى تعود ..ولايزال ذلك المهموم يمسح اطراف ذقنه.. لم تنقطع به السبل .. انتفض حينما تذكر الامل الاخير .. يسمع احدهم يتذمر لدرجة الملل .. ينادونه .. الظلام سرمدي .. يسوده السكون والصمت احيانا .. يتآمرون للنيل من الآم الزمن .. للحد من تطاوله .. يهربون من جحيم الظلام .. وضيق المكان .. الى مكان آخر .. يحمل هدوء موج البحر .. بالقرب من تلك النوارس الشرسة .. المهموم لا يزال منزويا في كرسيه .. اخيرا اقترب منا .. أفصح عما يدور بخلده .. طبعا بعد تفكير ممل .. مسح ذقنه كعادته .. بكلتا يديه .. اقترب اكثر .. اكد لنا أنه قرر الزواج .. أخيرا .. تفاجأ صديقه الاعمى بذلك القرار .. يعتقد أنه لا ينقصه شيئا ليتزوج .. الاخرون ليس احسن عنه .. تبدو حياة الوحدة مملة في عينه .. شعر بتحرك كرسيه .. يدفعه صديقه الاعمى .. لم يعطه مجالا لان يكمل حديثه .. كان صمت الاعمى مثيرا للشفقة .. عكس ما توقعنا .. حزن بلا مبرر .. مشى الاعمى في ظلامه.. يدفع كرسي صديقه المشلول .. مضى دون تعليق .. انظارنا تلاحقه .. قرر أن يقطع الطريق .. دون أن يسمع توجيهات صديقه كالعادة .. في منتصف الطريق .. وقع ما لا يحمد عقباه .. صوت دوى في مسامعنا .. اعقبه صمت .. اعقبه تدافع .. تجمهر .. كلام غير مفهوم .. كانا ممدودين أمام الحافلة ... آثار دماء تغطي اجزاء من جسديهما .. يبدو انهما قررا السفر معا .. غياب ابدي .. وعقارب الساعة تدور ..
بقلمي/ ناصر الضامري