ســورةٌ فُـصـحىَ بخَـطِّ اليـاســمـيـن
ــ ما ستقرأونه هنا حقيقي . نقلته من أوراق مذكراتي الشخصية الخاصة .
السبت 18/ 04 / 2018 م من بعد منتصف الليل ؛ عاشت فاطمة أفظع وأصعب ليلة بحياتها . في تلك الليلة التي غطست فيها روحها في بحر التوجس والترقب والقلق والهواجس ؛ لم تشأ فاطمة كعادتها التي لا أحبها أن تتصل بي أو تتواصل معي في هذا الوقت المتأخر جدا من الليل ؛ فقد خمَّنتْ ( وهذا عيب من عيوبها وقت الضرورة والاحتياج ) أنني بهذا الوقت ربما أكون في سابع نومة ، فلا يظهر لديها في هاتفها أنني بحالة " متصل " .
في تلك الليلة الرهيبة الليلاء التي عاشتها حارات دمشق ، شيئا ما إخترق أجواء العاصمة ، وتحديدا فوق المنطقة التي تسكن فيها صديقتي فاطمة . الصوت المرعب الأشد من صوت الصاعقة مَـرَّ فصَـمَّ الآذان وجعل من العمارة التي تسكن فيها بالطابق الخامس تهتز بكاملها . زاغت عينا فاطمة وفاض قلبها بكل الذعر الممكن تصوره .
بتلك اللحظة التي عبر فيها صاروخ الضربة الأمريكية الأعمى وتلته على الإثر طائرة حربية مرقت بأسرع من لمحة برق فوق العمارة مباشرة ولها أزيز مخيف يجعل من القلب ينخلع من مكانه ؛ بتلك الثانية من الزمن الخاطف شيئان مِن كل ما كان حول فاطمة وفيها لمعا في ذهنها وفي مشاعر روحها المهتلعة : الجيش والعاصمة .
شعرت أن القيامة قامت ولم تفكر في شيء . لا في روحها ولا في أختها سُهَىَ التي كانت تغط بكل إرهاقها في نوم عميق بعد نهار مرهق بالعمل . ولا في الشقة ولا في المتعلقات والأشياء التي فيها وتخصهما ولا في أي أحد أو شيء . كان كل تفكيرها محصور في شيئين لا ثالث لهما : الجيش ودمشق .
والتوى بطنها بشعور بغيض جعل من أمعائها تتقلص وأنفاسها تختنق .. كانت الأسئلة تتعاور وتتقافز مثل العفاريت في ردهات ذهنها وأحاسيسها : هل سيقضى على الجيش ، أول وآخر من يحمينا بعد الله بهذا الوطن المنكوب ؟! هل ستزول دمشق من الوجود في غمضة عين وتنتهي عاصمة الياسمين بكل حاراتها وأسواقها وشوارعها وقبابها وأقواسها ومساجدها وكنائسها وعرائش ياسمينها ومقاهيها وناسها وقصص عشقها وأكثر من خمسة آلاف سنة ضاربة في عمق التاريخ والحضارة ؟! هل سينتهي هذا الرفد المتواصل لأنهار العطاء في كل مناحي الحياة ؟! هل ستصحو فاطمة فاتحة عينيها أمام الصدمة الأكبر والمأساة الأوجع التي لا يتحملها إنسان لتجد نفسها أمام مدينة من رماد وأرض يباب يعمها الدمار الشامل والحرائق والدخان والصراخ الهستيري والهلع والجنون والفوضى وصور جثث القتلى ومن بقي على رمق من حياة من مشردين ومعطوبين ووجوه ملفوحة بالدماء والغبار والخوف والحيرة واليأس والدموع والإنهيار التام ؟! هل لن تتكحل عيناها الواسعتان العميقتان الجميلتان بسوق مدحت باشا . الحميدية . البزورية ، وحارات باب توما . الجامع الأموي . مئذنة الشحم . القلعة . المتحف الحربي . باب المعظم . ونهر بردى بمائه ومطاعمه ومقاعده وأشجاره وأزهاره وأجوائه الشاعرية التي يا طالما ألهمت خيال كل شاعر وكاتب وفنان . والمكتبات ودور النشر العظيمة التي منها يُـصَدَّر إلى العالم كل جديد في الفكر والعلم والشعر والأدب وكل صور الثقافة ــ هل سينتهي كل هذا ؟! هل سيتوقف نهر هذا العطاء الإنساني ويموت كل شيء ؟! هل ... هل ... هل ... ؟! صارت ( هل ) هذه أسواطا متلاحقة تلهب جلد شعورها بلا رحمة .
والجيش . الدرع الحامي للوطن .. المناضل ، الذي ضحى وما يزال بدماء خيرة شبابه ورجاله في ساحات المعارك والفداء . هل سينتهي بضربة واحدة غادرة قذرة تتحالف فيها قوى الشر والغدر والخيانة والتآمر ؟!
العمارة تهتز ، وهي مذعورة ، وكل جسدها يتقاسم مع العمارة ومن فيها هذه الرجفة ، وكما لو أن هناك مائة آلة وحشية تحيطهم خضا ورجا . تنبهت إلى وجود أختها سُهَىَ قريبا منها . إقتربت مذعورة منها وأخذت تربت بقوة على زندها وهي توقظها صارخة :
ـــ سُهَىَ .. سُهَىَ .. إصحي .. بلشو يضربوا فينا !!
صَحَت سُهَىَ مرعوبة على حين فجأة وهي زائغة العينين . قفزت من سريرها مترنحة كالمتسرنم ، تحاول أن تتوازن وتستجمع ذهنها بعد ذلك الإيقاظ القسري المفاجىء الذي داهمها وطيَّر النوم من عينيها . بدت كالمجنونة . لكنها في لحظة من لحظات تدخَّـل العقل ركضت وهي تصرخ :
ــ ويلي .. يا رب .. مالنا غيرك ..
توقعت شرا قادما . وبكل رباطة جأشها وعقلها الذي إنتبه فيه ذكاءها الحاد إنطلقت كالسهم جهة المطبخ . أغلقت بإحكام إسطوانة الغاز . أطفأت الإنارة وكل نقاط الكهرباء . أطفأت مجمع الكهرباء ، فغرقت الشقة في بحر من الظلام الدامس . فاطمة متجمدة في وقفتها . ركضت إليها سُهَىَ . إحتضنتها . بدتا في ذلك الحضن الذي تلاصقتا فيه كأنهما جسد واحد . روح واحدة . قلب واحد . ومصير متحد واحد ينتظر باستسلام قدره وهو مرفوع اليدين أمام الله . وفجأة سمعتا دوي إنفجار مفزع جهة موقع حيوي حساس ، قريب من العمارة التي تسكنان فيها . أحست فاطمة بشيء يشبه الرجة تحت قدميها . العمارة عاودت إرتعاشها . الشقة مظلمة تماما ، لكنها تحاول عبر النافذة أن تمتص بعض الإضاءة الخافتة الآتية من إنارات أعمدة الشوارع لتطرد من المكان شيئا من الرهبة التي توشحت فجأة زواياه وجدرانه ومن يسكن فيه .
بعد وقت إستعادت فاطمة وعيها وبدأت تجمع شتات ذهنها الذي تشظى وتبعثر في مساحة هول الصدمة العنيفة التي لم تترك مكانا في بدنها ومشاعرها إلا واخترقته بكل قسوة . يدها المرتعشة تحاول أن تمدها إلى الهاتف ..
ـــ وقتها .. كنت أنت قد خطرت فورا في بالي ..
تواصل حديثها معي وسرد ما حدث في تلك الليلة ..
ــ حسيت حالي راح أموت ، فقلت أودعك .
آه يا فاطمة . آه لو علمت وأنت تقولين لي هذا الكلام أي وقع أحدثته هذه الكلمة الأخيرة في نفسي وأي دوي دوت به وهي تهوي نحو أعماق أعماق قلبي وترتطم بقاعه السحيق ولها أنين موجع .
بعد محادثتنا وفي الصمت المتواري عن العالم إنزويت لوحدي .. وبكيت بكل حرقة .. تأسفت صدقا أنني لم أكن بتلك الليلة اللعينة بجوارك . لعنت نفسي . صفعتها بأكف اللوم . إحتقرت رجولتي التي شعرت وأنا في ذروة تقريعي لذاتي أنها لا أكثر من شكل فضفاض .. في وقت كانت أعز وأقرب إنسانة إلى حياتي وأجمل من عرفت تقصف مدينتها بالصواريخ وأنا في هناءة نومي .. نالت فاطمة نصيبها هي الأخرى من هذا اللوم .. عتبت عليها أشد العتب أنها لم تتصل بي بوقت وقوع الهجوم .. ألم نتعود أن نكون وقت الإحتياج أقرب لبعضنا بعضا ؟! ألم تكن ( وينك ؟! ) هي الجسر الأقوى الأكثر ما يربط ما بيننا وقت صراخ القلب واحتياج الروح المتعبة والمثقلة بالهموم ؟! صحيح وأكيد أنني لن أفعل لها شيئا على الأرض وأنا عنها بمسافة آلاف الأميال لكني على الأقل سأشعرها كما اعتادت مني أنني قربها وبجانبها عبر روحينا وطباعنا المتشابهة التي نعرف كيف نخلق بها فرحنا وبهجة الوقت الذي نحياه .. ـــ لم أشأ أن أوقظك من نومك وأزعجك برعبي وخوفي .. قالت مبررة فصرخت :
ـــ يغور نومي .. تغور راحتي .. يغور كل شيء من أجلك يا فاطمة .
في الصباح ، إستيقظ الياسمين فتجلى في بياضه الناعم خد دمشق وحسناوات دمشق وروح دمشق الضواعة بالطيبة والجمال والنقاء ، خرجت دمشق عن بكرة أبيها وملأت الساحات والميادين بالفرح والزغاريد والدبكات .. بينما كانت فاطمة ما تزال تواصل حديثها معي ومن قلب الحدث رغم أنها لم تفق بعد وبشكل نهائي من كل صدمة البارحة والرعب الذي صاحبها ورغم أنها كانت في غاية التعب والصداع ، إذ لم تنم أبدا طوال تلك الليلة .. وكنت أبذل جهدي كي أخرجها من هذه الحالة التي تلبستها ومن رعب الليلة الفائتة التي عاشتها بكل تصوراتها وأخيلتها المفزعة .
سألتها عن أختها سُهَىَ وطمأنتني أنها بخير . كل يوم تكبر هذه السُهَىَ في عيني ويعظم قدرها في نفسي .. سُهَىَ .. هذه الشابة الجميلة الرقيقة التي وقت الجد تكون عن سبعة رجال .
لا أنسى ما عشت يوم أصرت إلا أن تسافر بفاطمة إلى بيروت لتخرجها بأي شكل مما كانت فيه من تعب ولتغير لها جوها الذي كان يضغط على أعصابها بكآبته وذاك المزاج المتعكر الذي ما فتأ يلف حياتها ويزيدها كآبة وعزلة وغيابا عن العالم الذي حولها ( هذه الطبيعة هي أكثر ما يجمع بيننا نحن الإثنين من صفات إلى حد التطابق الذي يجعلنا منذهلين من هذا التواطؤ القدري العجيب الذي تلتقي فيه ومعه أبرز ملامحنا الداخلية ) .
لم توافق الجهة الرسمية على منح فاطمة إجازة و " تملعنت " في ردها على الطلب . هنا ما كان من سُهَىَ إلا أن جاءت بالإجازة عنوة من مكتب الوزير الذي أصرت على مقابلته شخصيا تحت حجة ظرف عائلي طارىء . في ذاك اليوم الذي خرجت فيه سُهَىَ من الوزارة بطلة منتصرة . كم وددت لو كانت قربي لأطبع جبهتها الغالية بألف قبلة شكر وألف ثناء على هذا الصنيع الذي صنعته لشقيقتها .
في بيروت .. في الروشة . شارع الحمراء .. وأماكن أخرى كثيرة جميلة وتفتح النفس خلعت فاطمة عن قلبها وحياتها كل أثواب المتاعب والهموم وضغوط الحياة المتراكمة . كانت سعيدة بهذا التجدد الذي حدث في أيامها وغيَّر بزاوية كبيرة وإلى الأحسن الكثير من نفسيتها . كانت سعادتها هذه تنعكس بشكل مباشر وملحوظ على حياتي وعلى مزاجي وعلى أجواء خربشاتي الكتابية ، فأكون بسبب أنها كذلك أسعد إنسان بالدنيا ومقبلا على الحياة بروح مشرقة يكون لي فيها من إسمي نصيب وافر ، حياة بهيجة يلاحظها الناس دون أن يعرفوا السر أو السبب الحقيقي وراء كل هذا التبدل . سُهَىَ ودون أن تدري هي من يقف خلف كل هذا التغير الإيجابي الذي يطرأ علينا نحن الإثنين .
نمت سعيداً أن فاطمة بخير وأختها بخير ودمشق وكل أهل دمشق بخير . كنت قبل أن أغمض عيناي قد ارسلت إليها مقطعا شعريا كان قد لمع بسماء عاطفتي وأبيت إلا أن أمسك برقه وأصوغه لها كما لمع وكما انسكب بوقته وساعته بكل حبره الضوئي المباغت . إنبهرت وهي تقرأه ثم استأذنتني أن توزعه وترسله إلى من تعرف من الأصدقاء والصديقات في دمشق وخارجها . تساألت مستنكرا بدهشة :
ـــ لماذا تستأذنين ؟! " الحب لا يطلب تأشيرة دخول " من عشاقه .
كان ذلك المقطع الشعري البسيط جدا جدا قد طار إلى دمشق ورفرف في سمائها وهو يزقزق حبا وحنينا :
وَجْـهٌ دِمَـشـقيٌّ
يُـرتـلُ سُــورةً فُـصـحىَ تُـسـمىَ اليـاسـمـيـن
وَجْـهٌ يُحـادِثُـني
ويَـغـمُـرُني سُـؤالاً ظـامِـئـاً :
مَـتىَ نـلـتـقي ؟!
وأغـيـبُ كُـلي
في مَـهَـبِّ السُّــؤْلِ والعَـطَـشِ المُـبـيـن !!
بقلمي ونزف مشاعري / سعيد مصبح الغافري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ