لا تزال ذكراهم عالقة في عقلي وقلبي ، بعد أن طواهم الموت منذ سنوات ، لتلك االأماكن ،
ولذلك الزمان ، ولتلكم اللحظات التي قضيتها معهم ، تعلمت منهم الكثير ، كالأدب ، والتواضع ، وحب الناس ، تعلمت منهم معنى الحياة ،
وكيف تتعامل معها ، في جميع اوقاتك ، في حال الرخاء ، وفي حال الشدة ، في حال المنشط والمكره ، في حال اليسر والشدة ،
تعلمت كيف تكون الحكمة ، وأين يكون موضعها ، بعد أن تعلمتها عملياً وقت وقوعها ، بعد أن جعلوها
_ تلكم المُعاملة والمعرفة _ واقعا يعيشونه ويُترجمونه في تعاملهم مع الناس ،
من اتحدث عنهم هم العالِمين الشيخ / سعيد بن خلف الخروصي _ مساعد المفتي سابقا _ والشيخ / سعبد بن حمد الحارثي
_احد علماء عمان _ _ رحمهما الله _ ولعلي هنا أذكر بعض المواقف التي عشتها مع الشيخين ، لتكون لي وقفة ، لنستخلص منها الفوائد .
بدايتي مع مُعلمي الشيخ / سعيد بن خلف الخروصي ؛
فقد كان الشيخ عالما عاملا لا يبخل في النُصح ، يوجه حين يُطلب منه ، وكان يخُص بالنصيحة المباشرة ،
لمن كان بالقُرب ، ويُبديه بالتلميح للعامة من الخَلق ،
فقد عرَّفني عليه أحد الأخوة الأعزاء ، فقد كان كثير الترداد عنده ، وقد كان يجلس معه ما بعد جلوس الطلبة والزوار ،
فعرَّفني على الشيخ ، وكنا نزوره حتى في فترة الليل ، حين اصطفانا وجعلنا من خاصته _ وذاك شرف لي _
فمن جملة المواقف :
كنا عند الشيخ بعد العِشاء ، وكان وقت تناول العَشاء _ وأنا أول مره أكل مع الشيخ _ قربوا لنا العَشاء ، وأكلنا إلى أن توقفت ، فقال لي الشيخ :
كمَّل أكلك ، فقلت للشيخ : يا شيخ سعيد كليت واجد والحمدلله ، وتراني بيني وبينك أن تايب عن اكل واجد ، فما كان من الشيخ إلا وقد بادرني بالسؤال فقال :
من موه تايب ؟
قلته يا شيخ :
كنت يوم أكل أكل أكل سنوقيه ، وعاد يوم اسير أنام ما اقدر من كرشي ، لدرجة أنهم يقلبوني يوم ابغى اتحرك ،
واعلنها هذك الساعة توبه اني ما اعودها الفِعله مره ثانيه ، وما يطلع علي الصبح إلا وانقض هذك التوبه وأرجع اجرع واجد ،
وهذي المره ناوي تكون توبة " نصوحة " بإذن الله ، فبينما أنا أحكي للشيخ سر التوبة ،
وإذ بالشيخ يبتسم ابتسامة كبيرة ، حتى كاد أن يُقهقه من الضحك .
وهنا وقفة مع هذا الموقف :
لفتَ انتباهي أن الشيخ كان حريصا على جعل اللقاء بعيدا عن أي رسميات ، وكان يُشاركنا الطعام ويُجارينا _
بالرغم من كِبَرِي سنة _ وكان دقيقا جدا ، وحريصا على أن يُبادر بالحث أن نترك الخجل ، ونأكل على راحتنا ،
وحين طلب مني أن اقص قصة التوبة ، كان طلبه من أجل إضفاء اللقاء بعض الفُكاهة ، وكان يُنصت بِكُله ،
وبعد سماع قِصتي علَّق عليها ، ومنها أخرَجَ منها الفائدة ، ليُخبرنا بوجوب الاعتدال في كل شيء ،
ومنها لم يُكلفني على اكمال الأكل ،
وهذا موقف آخر :
فبينما كنت زائرا للشيخ في احدى المرات ، وطلب مني أن أمر عليه يوم الجمعة _ بالرغم أن الشيخ لديه سائقه الخاص
_من اجل زيارة الشيخ / سعيد الحارثي _
وقد كان في ذلك اليوم يجتمع بعض العلماء مع الشيخ سعيد ، _ ومن جملتهم سماحة الشيخ الخليلي _ فمررتُ عليه في الصباح ،
وكان هناك بعض الزوار ، وقدموا لنا الفطور ، كان الشيخ يأكل وحده لكونه كبيرٌ في السن وله فطور خاص به ،
وكان الحضور لا يقل عن 10 اشخاص ، فقلت للشيخ :
" أنا اريد اكل معك ، ولا تخاف أني اجرعه عنك " ؟!
والحضور ينظرون إلي باستغراب ، كيف لي الجرأة أن أكلم الشيخ بهذه الطريقة ،
وهو العالم الذي يصمت في حضرنه الجميع ! فما كان من الشيخ إلا الامساك بيدي وقال : كُل بسم الله .
وهنا وقفة أخرى :
في هذا الموقف تساءلت كثيرا بعدها ، حين خلوت بنفسي ، وكنت أتساءل هل ما قمت به هو تطاول على الشيخ ؟!
هل كان فيه وقاحة ، وتجاوز للحد ؟!
بَقَت تلك الأسئلة تعصف في ذهني ، إلى أن ركبنا السيارة ، فأبديتُ لشيخي
اعتذاري وتأسفي من ذاك الموقف ، فما كان من الشيخ غير التخفيف عني ،
حين قال لي :
أنت في مقام ابني ، فلا تأخذ الأمور بحساسية
زائدة ، من الفائدة هنا تلكم اللمسات التربوية ، من جَبرٍ للخواطر ، وكيف للشيخ ابداء نصيحته من غير احراجٍ أو تجريح ،
حين حكى لي موقفاً حصل له مع شيخه _ واظنه ساقه
من باب النصيحة الناعمة _
والتي تٌربي ، لا تلك التي للقلبِ تُدمي !
، تعجبت من سعة صدره ، وكيف لهُ من التحكم بتعابير وجهه _ في أوج الموقف _ ،
حتى في تلكم المواقف ، لا تَجَد َلجسده أي تعابير ، كي تكشف من خلاله ردة فعله !
وبالرغمِ من ذلك ... يتكرر المشهد !!!
والذي سأخبركم عن أحداثه في اللقاء القادم_ بِحَولِ الله _ .