https://mrkzgulfup.com/do.php?img=86367

قائمة المستخدمين المشار إليهم

النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: نتاجات الكاتب و الاديب ( صــــــدى صوت)

العرض المتطور

المشاركة السابقة المشاركة السابقة   المشاركة التالية المشاركة التالية
  1. #1
    كاتبة خواطر في السبلة العُمانية الصورة الرمزية اسطورة لن تتكرر
    تاريخ التسجيل
    Jun 2012
    الدولة
    بين نبض حكاية ودمعة فرح
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    18,976
    Mentioned
    49 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)

    نتاجات الكاتب و الاديب ( صــــــدى صوت)

    " بروهم ليبرونكم "

    جئت اليه مغاضبا وتحدثت معه بقسوة وانا ادرك بأنه الرجل الرشيد الهاديء الوقور ولكن ما حكته لي والدته عنه أمر لا يحتمل السكوت عليه..
    إهدأ يا رجل إهدأ واخبرني ما كل هذا الغضب.
    قلت له : وكيف لا اغضب منك وانت (تعق) والدتك!!!
    أبعد هذا العمر تتركها يا قيس ؟
    تنفس الصعداء ثم نظر إلى جهة أخرى وكأنه لا يريد ان أرى ملامح وجهه في تلك اللحظه..
    بادرته بهجوم كلامي عنيف : ماذا جرى لك ؟ والدتك تقول ان لك ما يقارب الستة أشهر وانت متغير عليها.. تزورها زيارات متباعدة وفوق هذا لا تأخذ اولادك عند زيارتك لها في تلك الزيارات المتباعده!! ماالذي حدث يا قيس ؟ هل مشاغل الدنيا اخذتك بعيدا عن أمك ؟ هل جمع المال أهم لديك من رضا أمك ؟
    ما توقعت ابدا ان تصير الى هذا الوضع وانت البار دائما بها!!!
    - هون عليك يا صاحبي هون عليك فالمسألة ليست كما تتصورها ولا كما صورتها أمي لك.
    - وضح اذن كيف هي المسألة.. مع اني لا أجد لك عذرا ابدا.
    - يا صاحبي انت تعرف جيدا مقدار حبي لوالدتي وتعرف ايضا اني لا اقبل ان اقارن حبها بحب شيء آخر في الدنيا..
    أحاول برها بكل ما أوتيت من مقدرة رغم مشاغلي الحياتيه المتعددة والتي تعرفها انت جيدا.
    - إذن ؟
    - أمي رعاها الله لا تراعي عند حديثها معي فتناديني بأقبح الاسماء الى قلبي أمام ابنائي وأمهم فوق هذا لا تفتأ تذكر كل الاخطاء التي صدرت مني في صغري وشبابي أمامهم وهي تضحك.. في كل مناسبة اشعر بأني محرج امامهم وهم كما تعلم اصبحوا رجالا كبارا.. تنهرني واتقبل وكأني ما زلت صغيرا أمامها.. أسرتي اصبحت تعرف كل شيء عني من صحيح ومن خطأ وهذا يقلل من شأني كثيرا ويحرجني جدا.. حاولت ان اوضح لها مرارا ان تهدأ ولا تتعامل معي بهذا الاسلوب فإنه لم يعد مناسبا في سني هذا ولكنها في كل مرة تغضب مني وتبكي فأراضيها ولا اتركها الا وهي راضيه ولكن للأسف فهي لا تستوعب ما احاول ايصاله لها لدرجة اني اصبحت أزورها بمفردي حتى اتجنب الاحراج امام ابنائي وزوجتي..
    - هل هذا حل يا قيس ؟
    - ماذا تريدني ان افعل ؟ يا صاحبي الا تدري بأني قدوة لأولادي ولا يجب ان يعرفوا عني الا كل طيب والا أسقط مع التكرار من نظرهم ؟
    - نعم فهمت عليك.
    - يحزنني ان لا تعطيني أمي فرصة في أن أبرها.. يحزنني أن تستمر في تعاملها معي بطريقة لاتراعي فيها سني ووضعي وابنائي.
    - هل تحب أن أكلمها أنا ؟
    - لا داعي لأن تحرج نفسك يا صديقي.. والدتي وأعرف ردة فعلها جيدا.
    - سيأتي يوم وتفهم خطأها وأرجو ان يكون قريبا.
    - لا تهجرها ارجوك فهي أمك.
    - بالتأكيد لن اهجرها ولن ابتعد عنها فهي أمي ولكن هي فترة مؤقته علها تعرف خطأها.
    - صدق من قال : ( بروا ابناءكم ليبروكم)

    تعامل مع هذه الحياه
    وكأنك ممسك بوردة ذات لون ومنظر ورائحة جميلة
    تستنشق شذاها وتحذر شوكها وأنت ممسك بها



  2. #2
    كاتبة خواطر في السبلة العُمانية الصورة الرمزية اسطورة لن تتكرر
    تاريخ التسجيل
    Jun 2012
    الدولة
    بين نبض حكاية ودمعة فرح
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    18,976
    Mentioned
    49 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    من فضلك.. اسمعني

    أتيت إليه وقلبي يستغيثه كي يسمع قصتي.. ألمي وما حل بكل مشاعري من جرح دام يقض مضجعي... ألتقيته في مقهى يطل على شارع جانبي يكاد لا يتسع لأكثر من سيارتين تأت من بعده حديقة صغيرة بها بعض الالعاب القديمة والتي لم يفكر احد في تجديدها او إعادة صبغها ولكنها تنفع احيانا في إلهاء بعض الاطفال وحمايتهم من العبث في ذلك الشارع الضيق المزدحم نهارا بشتى أنواع السيارات.
    جلسنا على كرسيين بينهما طاولة صغيرة خشبية وطلبنا كوبين من الشاي..
    نظر إلي نظرة متفحصة ثم سألني عما بي.
    - أرى وجهك مصفرا وكأنك محموم.. ماذا حدث ؟
    -لم يحدث شيئا سوى انها طارت!!
    - طارت ؟ ما هذه التي طارت ؟
    - باسمه.
    - باسمه ؟ أتقصد... ؟!!
    - نعم هي بعينها.
    - مالذي حدث ؟ أعلم انكما على علاقة متينه وتخططان للزواج!!
    - لا أعلم مالذي حدث لا ادري مالذي غيرها فجأه وقررت الانفصال.
    - يا صاحبي هن كذا دائما.. لقد مررت بنفس قصتك وربما أتعس منها.. علاقتنا استمرت سنتين وكنا كالعصفورين نحلق بأجنحة الحب.. كنا مرتبطين برباط وكأنه مقدس ولا يخطر ببال أحدنا في ان هذه العلاقة ستنتهي بل ستذوب وكأنها فقاعة هواء... جاءتني ويبدو على ملامح وجهها الارتباك والرجفه ثم رمتني برصاصة اخترقت فؤادي.. بدون أية مقدمات قالت : كل ما كان بيننا انتهى.. اتمنى أن تنساني وأن تنسى كل شيء ا كان بيننا... نقطة وأنتهى.
    ثم ذهبت... تركتني في ذهول وأشعر بأني في حلم..لا بل كابوس أرق منامي.. صمت لساني.. كل حروف الابجدية اختفت من على شفتي.
    وقفت في ذهول لما يقارب من النصف ساعة.
    - ما هذا الذي سمعته أذناي ؟ هل قيل لي أنا ؟لا لا هذه ليست هي ولا الكلام خرج من لسانها ولا الكلام هذا سمعته أذناي... هي لا تقول مثل هذا الكلام لي أبدا ولن تقله بتاتا!!!
    اتصلت بها عندما أفقت مما كنت فيه ( الرقم الذي اتصلت بها موقوف بصفة مؤقته.. رجاء الاتصال في وقت آخر) هذا هو كل ما اسمعه منذ عام ونصف العام .. وكأنها ذرة ملح ذابت في كوب ماء.. اختفت وكأنها لم تكن في هذه الدنيا أبدا.. صفحة من صفحات حياتي تم إسقاطها سهوا.
    هيا لنذهب لقد تأخر الوقت كثيرا.
    ثم ذهب... ذهب وتركني ولم يسمع مني سوى عنوان القصه.. تركني بغصه ومرارة في حلقي وكأني ملدوغ للتو .. لم يستطع سماع قصتي .. لم يمهلني لأبث شكواي... هو العنوان فقط كل ما تمكنت من قوله وأكمل الحديث بقصته هو وتجاهل ما أردت أن أبوح به له وعندما أكمل حديثه وفضغض وانتهى كلامه تركني وذهب..

    تعامل مع هذه الحياه
    وكأنك ممسك بوردة ذات لون ومنظر ورائحة جميلة
    تستنشق شذاها وتحذر شوكها وأنت ممسك بها



  3. #3
    كاتبة خواطر في السبلة العُمانية الصورة الرمزية اسطورة لن تتكرر
    تاريخ التسجيل
    Jun 2012
    الدولة
    بين نبض حكاية ودمعة فرح
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    18,976
    Mentioned
    49 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    هذا نفر ما في مخ

    نفر ما في مخ..

    بقلمي : خليفة سالم الغافري

    حضر وقت صلاة الجمعة ذات سنة وانا في محافظة أخرى غير محافظتي فدخلت الى المسجد.. المسجد كان متوسط المساحه ولكنه كان يعج والحمدلله بالمصلين.. بصعوبة وجدت لي مكانا لأستمع الى خطبة الجمعه..
    كان ما يقارب من التسعين بالمائة من عدد المصلين من العمالة الوافدة الآسيوية بعضهم يرتدي ملابس عمانية وقلة قليلة من أهل البلد...*
    كان الخطيب مفوها وهو رجل مصري على ما يبدو في الستينات من عمره يرتدي جلابية واسعه وعلى رإسه عمامة بيضاء كورها على رأسه كتلك التي نراها في المسلسلات المصرية.. يضع على عينيه نظارة طبية سميكة ويحمل في يده عصى غليظة يتكيء عليها.. بدأ في إلقاء خطبته العصماء ذكرني ساعتها بخطب الشيخ عبدالحميد كشك وهو يحاول جاهدا ان يقلده.
    يعلو صوته احيانا ويخفضه احيانا أخرى ولكن الملفت للإنتباه أن الكثيرين من الحضور نائمين وهم جلوس لدرجة أن أحد المصلين وكان جالسا على يميني بدأ في إصدار اصوات تشبه الشخير وضربت بركبتي على ركبته ليصحو والخطيب مستمرا في إلقاء خطبته غير آبه بحال من يخطب فيهم.. أدرك جيدا أن المصلين لا يستوعبون ما جاء في تلك الخطبة لإختلاف اللغة فمهما كانت لديهم المقدرة على التواصل لغويا مع الآخرين إلا أن مقدرتهم تلك قاصرة عن فهم خطبة تلقى عليهم باللغة العربية الفصحى .. كما أنني أفهم جيدا أن الرجل مدرك تماما أن هؤلاء المصلين لا تصلهم كلماته بشكل جيد ولكن هو يؤدي عمله كخطيب وغير ذلك ليس من شأنه.*
    أنتهت الخطبة والدعاء وأقيمت الصلاة..*
    في الحقيقة كان يرتل بصوت جميل ولكن وعند أول سجدة لنا سجد ذلك الرجل الجالس على يميني والذي كان نائما ولم يرفع رأسه بعدها قمنا للركعة الثانية وهو لا يزال ساجدا.. شغلني كثيرا ولم أستطع التركيز في صلاتي فالرجل على ما يبدو أنه قضى نحبه ساجدا.. يا له من محظوظ في خاتمته.. لقد مات وهو ساجد... ماذا أفعل ؟ علي أن أفعل شيئا ما!!! ربما يحتاج لإسعاف أولي سريع!! وبالتأكيد علينا ان نأخذه لقسم الطواريء بالمستشفى..
    هل أكمل صلاتي أولا ومن بعدها أقوم بمساعدته ؟ أم أساعده اولا ومن بعدها أعيد صلاتي ؟
    وأنا في غمرة تفكيري وحيرتي فجأة رأيت الرجل وقد نهض من سجوده وتلفت يمنة ويسرة وخرج من المسجد يتخطى رقاب المصلين وذهب.
    وذهبت صلاتي بالانشغال به وبحالته تلك.. وقفت مذهولا.. ما هذا ؟ الرجل لا يزال حيا وذهب.
    بعد الصلاة سألت أحدهم عما به فرد علي بعربية مكسرة : (هذا نفر ما في مخ).

    تعامل مع هذه الحياه
    وكأنك ممسك بوردة ذات لون ومنظر ورائحة جميلة
    تستنشق شذاها وتحذر شوكها وأنت ممسك بها



  4. #4
    كاتبة خواطر في السبلة العُمانية الصورة الرمزية اسطورة لن تتكرر
    تاريخ التسجيل
    Jun 2012
    الدولة
    بين نبض حكاية ودمعة فرح
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    18,976
    Mentioned
    49 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    لست أنا

    لم استطع يوما تقبل فكرة ان اكون بديل فاقد في حياتي ابدا ، مذ بدأت ادراك حقيقة الحياة وسؤال يراودني مرارا بل ويكدر علي صفو حياتي ولكن البوح به او طرحه على أي كائن من الصعوبات التي تصل الى درجة المحظورات ، ما أنا ؟ أكيان حقيقي كباقي الكيانات البشرية المتناثرة هنا وهناك ؟ السؤال صعب والإجوبة عليه أصعب بكثير منه ، لا أحب ان أجيب على السؤال لأنه مرهق جدا لأعصابي ، أصرخ في داخلي متسائلا : هل أنا فعلا كبقية البشر كيان مستقل ؟ أم أنا الشخص الذي كما تحب أن تداعبني جدتي أحيانا ( انت حبيبنا ، جئت لتعوضنا أخاك الذي مات وهو في السابعة من عمره) ، جملة كثيرا ما ترددها جدتي ولكن الغريب أني لم أسمعها من أمي ذات مرة أبدا !
    تقدم سقوطي الى الحياة طقوس هي أشبه بقداسات كهنوتية تشعر الفرد أن القادم من ظلمات ذلك البطن نورا مقدسا يلتمس منه القيام بمهمة سامية وأي مهمة!! إنها الشهادة التي تبرهن على أن البقاء المطلق لتلك السلالة التي قدمت إليها شهادة حية تشبه زخات مطر تساقطت فوق يابسة شارفت على الهلاك فأحيتها وأحيت ذلك الأمل المتضاءل في استمرارية النسل الذي يوازي في قداسته كل قداسة تسيطر على عقول لم تقدر على ان تشب عن طوق ثقافاتها البالية التي لم يعد لها أي قيمة أو وجود حقيقي إلا في اذهان من يشبهونهم .
    ترهقني تلك المبالغات في الحفاظ على وجودي سليما من أي أذى.. زهقت من كل شيء ولكن من يدرك رغبتي في كسر تلك الأغلال من حول عنقي ؟ من يفهم أن مبلغ مناي أن اعيش ككل أترابي حياة عادية يتخلى عني ولو للحظات ذلك الرقيب الذي يحيطني بعينيه المفتوحتين على الدوام كيلا أصاب بأذى وهو في غفلة عني!!
    دروس يومية مملة يقذفها والدي في مسامعي حول الاعتداد بالنفس كنوع من المحافظة على هيبة العائلة وعدم التهاون في كل ما من شأنه تعريض اسم العائلة لجرح اجتماعي يمس صلابتها المستمدة من الحفاظ الدائم على سمعتها الطيبة.. تتعب ذهني كل هذه القيود الاجتماعية المملة.. يتعبني حتى اسمي الذي سمي به أخي الذي توفي من قبل فشعوري بأن كل شيء في وجودي مرتبط بشخص آخر - حتى اسمي - وليس بي أنا يجعلني أحيا حياة مستنسخة من جينات أخرى لا تخصني.
    لم أجد يوما جوابا لكل سؤالاتي التي تخنقني يوما بعد يوم بل وتضيق الخناق حتى عنقي ، سألت ذات مرة أمي حول وضعي و سر
    حرصهم الشديد في الحفاظ على حياتي ولكنها لم تستطع الاجابة التي عرفتها فيما بعد ، تلك الإجابة الجارحه لها ولكيانها قبل ان تكون جارحة لمشاعري ، لم تشأ ان تخبرني عن كف العفريت الذي كانت تحمل عليه قبل قدومي للحياة بأيام قلائل المتمثل في تهديد وجودها كزوجة في حال انجابها أنثى ، فهمت أني المنقذ لصيرورتها الزوجية وسببا لفرحة عارمة لم تشعر بها أمي ذات لحظة.. شعور أمي بكونها وعاء إنجاب يخلو من أي قيمة وجودية أخرى يقطع قلبها النازف كل يوم فهنا أم كل دورها في الحياة إنحاب ذكر أو تترك حياتها لتجر أذيال الخيبة متوارية خلف دموع لا قيمة لها عند أي كائن ولهذا أجدها صامتة قلما تتكلم او تبتسم رغم أنها فعلت ما يرغبون به بقدرة الله لا بقدرتها منذ ما يقارب التسعة عشر عاما.. كل هذه السنوات وهي صامتة ، فدورها انتهى فليس عليها أن تعتني بهذا الطفل القادم من رحمها ولا أن تسأل عنه فهناك من يتكفل بكل احتياجاته منذ خروجه من بطنها ساعة الولادة.

    اختيارها للصمت لم يكن شخصيا كما يبدو للناظر لحالها من أول وهلة فالإهمال الممنهج الذي قاسته على مر السنوات لم يكن بالامر الهين على فتاة كل ذنبها أنها اصبحت زوجة لرجل لا شبيه له في كل شيء ، فقسوته على من حوله كفيلة بتحويل كل من يحيط به الى تماثيل حجرية لا روح فيها ، وكذلك أمي.

    سجالا عنيفا بين صراعات مختلفة في داخلي يصعبني البوح بها ففي الحقيقة لا صديق لي او شخص ما مقرب أستطيع ان أبوح له ما يعتمل في داخلي من هواجس صلدة عاتية تثقل كاهلي وتفتت كل قوة أحاول أن أستجمعها لأستطيع المضي ولو قليلا.. ان التقهقر النفسي الذي أعايشه مذ بدأت أدرك حقيقة وجودي في عالم لا يعترف سوى بما يراه مناسبا له فقط غير آبه بمشاعر أو معاناة أي كان ، مقرا بالشكل الخارجي للحياة ولا تعنيه ما يجول في النفس من احاسيس فالعالم المادي لا يعترف أبدا بمشاعر انسانية قط.
    كثيرا ما تشبعت النفس بشعور الوحدة فبالرغم من كل المحيطين بي إلا ان الشعور باللاقرب من احد يجعلني اعيش حياة نفسية منزوية وبطبيعة الحال فهذا لا يهم أحدا فلا أحد يستطيع تخطى عتبة ( الإبن الوحيد المدلل) وبالتالي فسبر أغوار النفس يعد إمرا عسيرا فاستبطان الأمور دائما يحتاج لدرجة كبيرة من القرب ومماهاة للمسافة بين شخصين فأجدني بعيدا وحيدا أعيش في عالم محاط بقداسة مقززة لم تنفخ فيه روح ذات يوم.
    معاناة لا يشعر بها أحد سوى أمي الصامتة والتي أكاد لا أرى من أمومتها سوى دمعة تترقرق في مقلتيها سريعا ما تمسحها بطرف كمها كي لا أراها فيداخلني العطف عليها فهي لم تتعود على ( العطف) أبدا منذ أن فتحت عينيها ووجدت نفسها رهينة محبس زوجي عليها أن تؤدي فروض الطاعة كل يوم وأن تسرع في إنجاز المهمة العظيمة الملقاة على عاتقها وهي ( إنجاب ذكر) لينتهي دورها المنوطة به إلى الأبد.
    الصراع الذي تذوب فيه أمي لا يقل عن الصراع الداخلي الذي يتغلغل في روحي يوما بعد يوم فهما ذاتان متلازمان لا ينفكا أن يتفارقان فأحدهما إمتداد أزلي للآخر.
    أم مسلوبة الإرادة والشخصية والروح وإبن وجد نفسه يحوم داخل حلقة مفرغة او كأنه ملقى في جب لا قرار له.
    حتى عند محاولاتي أن أكسر قيد عذاباتي وعذابات أمي لم استطع فأمي لا قدرة لها على التجاوب لمحاولاتي البائسة.
    لم علي أن أبقى طوال عمري أسير أفكار
    لا دخل لي ولا لأمي فيها الا لعبور حياتنا في هذه الأثناء من الزمن..زمن توقف - على ما يبدو- عند نقطة باهتة استطاع البعض أن يتخطاها ليلحق بالزمن الذي يعيشه لا زمن مر وجرف في طريقه كل ما كان فيه من حياة وبشر وأفكار وظروف عدا أفراد هذه الأسرة الذين نسيهم الزمن وبقوا يراوحون بين شمس مفاهيمهم العتيقة البالية وظل أرواحهم الميتة.
    محاولاتي تبوء بالفشل المرير في كل مرة تسيطر على روحي فكرة الخروج من كهف حياتي السائرة ببطء شديد وليتها تبقى الامور عند نقطة الفشل وحسب ، ولكن عقب كل محاولة واخرى للفرار اجدني أسير طوق لف حول عنقي كمحاولة لمحو أفكار سامة تنمو في ذهني كما يحب والدي تسميتها ويحاول تقليم جذورها كيلا تستفحل وتسبب له صداع بلا داع.
    الأيام تسير ببطء ممل ، لا أجد جديدا تحت شمس هذه الأيام القاتمة يوحي بأن داخل جسد هذه الحياة روح حية وقلب ينبض ، علي أن أقوم بنفس طقوس القداسة اليومية للأسرة ، خطوط مرسومة لكل فرد منا تشبه تلك الخطوط الوهمية التي يسير عليها افواج النمل في طريقه لجلب المؤونة من مكان ما ليس له أن يحيد عنها ، حياتنا أشبه بحياة قطيع مسير.
    وفاة جدتي جلب لنا مزيدا من الحزن فقد كانت رغم تشبثها بالماضي الا انها كانت دائمة الابتسام ، روحها المرحة تضفى جوا نعده المتنفس الوحيد بين جدران منزلنا الكبير ، فاضت روحها المرحه بهدوء لم نعهده في هذا البيت ، لا احد يعلم ما كانت تعانيه لأنها لا تشتكي سوى لوالدي والبوح به كان محظورا الا عن طبيب هندي عجوز يأت لزيارتها بين الفينة والأخرى ليطمئن على وضعها ويصف لها بعض العلاج ، كنا نراقب ذلك من بعيد وليس لأحدنا أن يسأل عن شيء.
    ماتت وتركت لنا بعض حزن استمر لايام ، حقيقة لا اعلم أي قلب ذلك الجاثم على ضفتي اضلاع والدي فلم ألحظ دمعة واحدة ذرفت من عينيه عند وفاتها ، وكأن الأمر لا يعني له كثيرا.
    الفراغ الذي تركته جدتي أثر على بعض أفراد الاسرة الغير مقربين لها كصلة رحم ولكن الحياة سارت كعادتها مباشرة عقب ايام العزاء الثلاث.
    رأيت أخواتي الاربع يقفن أمام والدي بشكل يوحي بأن في وقفتهن تلك أمرا ما لا يروق لوالدي أو ربما لهن ، اقتربت قليلا لأستشف الموضوع الذي أثار فضولي ، أختي الكبرى تذرف دموعها وسمعت بعض نشيج لها بصوت خافت يكاد لا يسمع ،
    ما الأمر ؟
    سمعت والدي يقول لها بصوته الأجش : سأتولى الأمر لا تقلقي وامسحي دموعك لا أحب أن أرى دموع ابدا.
    عاودني نفس السؤال: ما الأمر ؟
    أنفض المجلس سريعا إلا من والدي ، ظل متكئا على عصاه لفترة وتبدو على قسمات وجهه حيرة ما ،
    لا أجرؤ على سؤاله بالرغم من أن الأمر على ما يبدو أنه متعلق بأختي الكبرى ، ومع ادراكي بمكانتي المتميزة ( نوعا ما) عنده ولكن هيبته تخلق بيننا وبينه سدا كبيرا.
    تبددت حيرته عندما دخل عليه ضيف لم أره معه من قبل ولكن حفاوة الاستقبال كانت تشي بأن الضيف له مكانة مهمة لدى والدي.
    لأول مرة اراه مبتسما وعلامات البشر تغطي قسمات وجهه ، من هذا الرجل الذي حول والدي هكذا الى شخصية أخرى؟
    لم أهتم كثيرا بعدها بالضيف أو بمسألة أختي فمثل هذه الأمور تبقى غالبا لأبي يتصرف بها حسب مرئياته...
    أنصرفت لأمور حياتي ودراستي وانغمست فيها حتى النخاع ، ربما انغماسي المبالغ فيه كثيرا كان لرغبتي في الخروج من الإجواء المملة التي اعايشها ولم استطع التعايش معها ، للأمانة فالحياة تسير بروتين متشابه ، تطلع شمس النهار وتغيب وبين الفعلين تسير الامور متشابهه والجديد فيها قليلا أو فلنقل لا يشاء لنا الاطلاع على كثير من المتغيرات او الحوادث اليومية.
    لا شك أن حياة الفردية والعزلة النفسية التي اتخذتها مسارا جديدا لحياتي لم تكن بالشيء الجديد كليا فحياتي تشبه حياة معظم افراد البيت الكبير ما عدا كبار الأسرة الذين لم يقدر الزمن على ترويضهم رغم الاستماتة في ذلك.
    حياة العزلة جعلت مني شخصا آخر لا يهتم بأي شيء حتى بالدراسة ، من الغرابة ان يلحظ والدي تلك العزلة والانزواء رغم أن ذلك يعد أمرا غير ذات أهمية بالنسبة له والأغرب من ذلك أن يسألني عما بي!! فاجأني اهتمامه وأكثر من ذلك أن يحدثني عن فكرة لم أصدق أذناي عند سماعها!!!
    قلما رأيت وجه أبي بشوشا كذاك اليوم ، وكأن قناعا سقط ليظهر وجها حقيقيا طالما تمنيت أن أراه طيلة عمري ، كان ودودا معي ، حدثني عن أشياء عديدة لا أعلم ما هي ، في الحقيقة لم أستطع التركيز معه ، كنت مشدوها وأشعر بارتباكة غريبة ، وضع يده على ركبتي اليمنى وضغط عليها ، شعرت برعب شديد ، كان في ذهني سؤال يكاد يشلني : ماذا بعد ؟
    عله خيرا.. عله خيرا يا رب

    قال لي : ما رأيك أن تسافر الى مكان آخر ؟ منها للدراسة ومنها لاكتساب معارف جديدة وتنفيس لك لتعود إلينا بروح جديدة!!!
    موافقتي السريعة على تنفيذ الفكرة دفعت أبي لتسهيل كل ما من شأنه تيسير سفري.
    أول خطوة لي باتجاه عالم آخر ، باتجاه شمس جديدة ، خارج أسوار بيتنا الكبير ، بل خارج أسوار الحياة كلها . تلك الخطوة كانت مهمة في حياتي بل هي الأهم من كل شيء ، ورغم مرور ما يقارب من الربع قرن على تلك الخطوة التي تنفست بسببها هواءا جديدا الا ان الحنين يعصف بقلبي مرارا لتلك الحياة ولأمي ولكل شيء هناك . ولكن السنين التي قضيتها مغتربا والحياة الجديدة التي أعيشها وتجذرت بعمق قدرت أن تمسح من ذهني فكرة العودة وللأبد.

    .قلمي : خليفة سالم

    تعامل مع هذه الحياه
    وكأنك ممسك بوردة ذات لون ومنظر ورائحة جميلة
    تستنشق شذاها وتحذر شوكها وأنت ممسك بها



  5. #5
    كاتبة خواطر في السبلة العُمانية الصورة الرمزية اسطورة لن تتكرر
    تاريخ التسجيل
    Jun 2012
    الدولة
    بين نبض حكاية ودمعة فرح
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    18,976
    Mentioned
    49 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    بثينة

    لم تكن تلك النظرة سوى الشرارة التي اوقدت في داخلي شعورا زلزل كياني في لحظة على حين غفلة كان مستبعدا لإعتقادي بأن ذلك لا ينتج عنه سوى آلاما كنت أرى أنني في غنى عنها..
    ربما كان هذا المبدأالمتطرف يصنع في داخلي حواجز تمنع تسرب كل ما يمت للحب بصلة الى روحي ، أدت الى تصلب كل مشاعر قد تنبض ذات غفلة تجاه الأنثى لسنوات علها تكون اكثر عددا مما اتصور.
    وقوعي في ما يحب البعض تسميته بالحب كان عن طريق صدفة ندمت عليها فيما بعد لإدراكي أن تلك الصدفة او المصادفة كانت سببا في جر الكثير من المتاعب التي كنت اخشاها طيلة سنوات عمري.
    سنوات عمري تلك التي نفضت عنها ما يسمى بالمراهقة وأفول مرحلة الشباب التي انسلت من بين اصابعي في سنوات غفلة كنت أحسبها شيئا ذا قيمة.
    ذلك التناقض الذي اجده كموج يتلاطم في داخلي نتيجة كل المباديء التي كنت اعتنقها سابقا وما يأخذ بوجه البوصلة الى قبلة أخرى من الحياة الآن ربما يعكس رغبة موأودة وهنت جذوتها مع مرور الايام للولوج الى عالم آخر من الرضا وواقع أكثر جمالا مع الحب يدعم حياتي التي لم اعشها كما ينبغي لفرط الغطرسة الساذجة والتي بدت لاحقا كسراديب مغلقة ، فرضت على روحي قيودا ظلت آثارها باقية كندوب تذكرني بأن بعض المباديء تفتك بكل شيء جميل في هذه الحياة.
    ربما تلك النظرة التي غيرت مجرى كل شيء في حياتي خلقت وهجا ساطعا بل نفخت روحا جديدة في كياني سرعان ما تحول إلى مشاعر حب لم أعهدها منذ زمن، ذلك الحب الذي تحول مع مرور الأيام الى قيد مصنوع من حرير إلتف حول قلبي لم أستطع أن أصارحها به كما ينبغي ، فما أجده من مشاعر تجاهها لم تجده هي أبدا ولكنها - وأقدر لها ذلك كثيرا - ما رغبت في إن تجرح مشاعري - كما فهمت - فصدت ذلك الموج الأهوج من المشاعر بلطف مغلف بحزم لم أشأ استيعابه فقد كان يحدوني الأمل في أن تغير رأيها ذات يوم.
    وصولي متأخرا الى المستشفى حتم علي السير مسرعا في احدى ممراته ، لم يكن في بالي حينئذ شيء أهم عندي من وصولي بأسرع ما يمكن الى القسم الذي أعمل فيه ، كانت الساعة تشارف على الثامنة إلا ربع صباحا ، لم يحدث أن تأخرت طيلة الخمسة عشر عاما التي قضيتها في هذا العمل ، كنت مثالا للموظف المنضبط.
    كل ما كان يجول في بالي لحظتها هو ردة فعل الموظف المسؤول وسيل الأسئلة التي قد يمطرها علي حينما أصل ، في الحقيقة لا يوجد لدي أي جواب لكل الاسئلة تلك ، كل الكلام تبخر وكأن الحروف لم تخلق بعد ،
    قطرات عرق بارده تمردت على تماسكي المزيف وبدأت تندي جبيني تكشف ذلك الارتباك الذي أحاول جاهدا أن اخفيه ، خطوات متسارعة يخال للناظر إلي وكأن اشباح تطاردني ، أحسست بإن الوقت يمر سريعا كالسهم المنطلق والمكان أبعد مما كان ، في خضم كل ما أنا فيه سمعت إسمي كهاتف يناديني من بعيد ، صوت يبدو كنغمة رقيقة ، ذبذباتها ترتطم بمسامعي ، إلتفت إلى حيث الصوت محاولا أن اتمالك و اسيطر على لهاثي ، وأمسح حبات العرق التي باتت تتحدر بشكل لافت على جبيني تجتاح قسمات وجهي ، من هذا الذي يناديني الآن ؟
    ياالله!!!
    (وذات دل كأن البدر صورتها) كما قال ابن برد..
    من هذه ؟
    - صباح الخير استاذ صلاح.
    - أهلا صباح النور.
    - خيرا... ما بك تلهث هكذا ؟ هل أنت بخير ؟
    - لا شيء.. لا شيء.. فقط تأخرت عن العمل.. بالأذن منك فأنا مستعجل.. أووه.. معذرة عزيزتي فأنا لم أعرفك بعد!!
    ابتسمت ابتسامة حسبتها عميقة وحلوة وهمت بالانصراف ثم قالت وهي لا تزال على ابتسامتها : لا تزال الساعة السابعة الا ربع ، وانصرفت.
    في الحقيقة لم اكترث لحظتها كثيرا لمسألة الوقت بقدر انبهاري بذلك الملاك الذي كان معي قبل لحيظات قلائل.. سؤالي الذي أخذ يتردد كثيرا في ذهني : من تكون ؟

    -صباح الخير استاذ صلاح.. ما بك ؟هل اضعت شيئا ؟
    - صباح النور.. نعم اضعت.. لا لا اقصد نسيت هاتفي.. لا ادري اين!!
    - الوقت لا يزال مبكرا على موعد الدوام.. اظنك على غير ما يرام.
    -ابدا عزيزي انا بخير.. استأذنك.
    لم استطع أن ازيح صورتها من على خيالي ، كل تفاصيل وجهها تبرز كلوحة ملائكية بين ناظري تطاردني ، وكأنها هي!!! لا لا.. لا أظن أنها هي!! هل يعقل.... ؟؟
    أسئلة كثيرة تخترق صدري وأنا اقف امامها عار لا أملك لها اجوبة..
    يممت نحو القسم الذي اعمل فيه وبالي مشغول ، سبحان مغير الاحوال ، ما يشغل ذهني الآن يختلف تماما عما كان يشغله قبل قليل ، اشعر كمن انفصل عن عالمه كلية ، كل تفكيري منصبا في ذلك الكائن النوراني الذي صادفته وكلمته وكلمني ، نعم كان كل شيء حقيقة ، لم اكن احلم بل كل شيء كان واقعا.. خطواتي بدت ثقيلة وكأن قدماي متمغنطتان نحو تلك البقعة من الممر المؤدي الى حيث لا أدري الآن ، عطرها لا يزال يملأ أنفي ،شعرت بدخون أنفاسها - رغم المسافة الفاصلة بيننا- سحر يأخذني إلى عالم لم أعهده من قبل ، بل ربما.... كادت نظارتي ان تسقط من على وجهي لفرط التعرق المتحدر من على جببني ، سرت نحو القسم الذي أعمل فيه وكأن شخصا آخر غيري ، سؤال كبير في ذهني يتمدد بلا إجابة كالبالون يكاد ينفجر بما فيه ، من هي ؟ أيعقل أن تكون.... ؟؟!!!
    لم أجد إجابة لسؤالي.

    ..........

    مرت نصف ساعة وأنا أقف أمام خزانة خشبية مكتظة بالملفات محاولا العبث بمحتوياتها كي أبعد تلك الصورة الآتية من سحابة ماطرة هطلت بغزارة على كل ذرة في كياني وحولته الى قلب ينبض على غير عادته لاهثا كذئب مفترس يحاول اللحاق به .
    صوت رقيق يداعب مسامعي كمعزوفة سيمفونية تدغدغ مشاعري ، صوت يكاد يكون مألوفا لدي بعض الشيء!!!
    - هل تحتاج إلى مساعدة ما ؟
    - لا.
    - أأنت على ما يرام ؟
    - نعم نعم أنا بخير.
    - حسنا ، لو احتجت الى أي مساعدة أخبرني من فضلك.
    - شكرا لا احتاج الآن الى شيء.
    لم ألتفت الى الشخص الذي كان يعرض علي المساعدة بالرغم من رقة ونعومة صوته، فما كنت لأهتم لشيء أكثر مما يحيرني ويذهب بكل تركيزي.
    مجيء زميلي محمود بدد كل ذلك الهدوء ، دخل كعاصفة اقتلعت ذلك الشرود من جذوره ،سؤال صعق ذهني وكاد ان يوقف قلبي بادرني به وهو يبتسم :
    - هل تتذكرها ؟
    - أتذكر من ؟
    - بثينه!!!
    - لا أفهم سؤالك!!
    - التي كانت تقف الى خلفك قبل قليل وتكلمك.
    - بثينة ؟ لم أرها!!
    - لأنك لم تلتفت حينما كانت تحدثك!!!
    - وما أدراك بذلك ؟ هل كنت تراقبني؟
    - أبدا ولكني طلبت منها أن تأتيك لعلك تتذكرها!! ولكن على ما يبدو أنك كنت في كوكب آخر هههه.
    - أتهزأ بي يا محمود ؟ ثم من بثينة هذه التي تتحدث عنها ؟ أنا لا اعرفها ولم أرى اي بثينة!!
    - هي نفسها التي كانت تتحدث معك في الممر صباحا.
    - ماذا ؟ هل تقصد أنها تعرفني ؟
    - ما بك يا صديقي ؟ هي بثينه زميلتنا أيام الجامعة.. كانت دائما تجلس في المقعد الذي أمامنا... انها...
    - يا الله!!
    - أهي حقا ؟
    - نعم انها ذاتها.. وعليك أن تصحح الموقف فلا يصح انها كانت تكلمك وتعرض عليك المساعدة ولم تعرها اهتماما بل ولم تلتفت اليها حتى.
    بثينة تلك الفتاة الانيقة دائما رغم بساطتها الا انها كانت كالقمر الساطع بين نجوم في ليلة مظلمة ، ابتسامتها فجر يشق بخيطه الابيض ليلي ليبدد ظلامه عن روحي المتيمة بها عشقا. ما كانت لدي مقدرة على البوح بمشاعري أمامها خوفا من ان تخذل قلبي المتلهف لها دائما.. فضلت الصمت وسجنت احاسيسي في قمقم الخوف والتردد ، عانيت كثيرا لدرجة ان كانت المعاناة جزء من تفاصيل حياتي ، بعد التخرج اختفت وكأنها لم تكن بيننا ،لم تأت الى هذه الدنيا ، كانت محض طيف مر كالكرام ثم تلاشى..وتلاشى معها كل شيء سوى مشاعري التي حاولت وأدها لأستريح من كل تلك المعاناة التي لا تدري هي عنها شيئا ولا احد يعرفها غيري.
    .......
    لم أنم ليلتها ، احداث اليوم كانت كفيلة بقلب كل موازين حياتي ، صورتها لم تفارق مخيلتي ، أراها في المرآة وكأنها تتلبسني ، أكلم خيالها كما كنت افعل ايام الجامعه ، كنت جبانا ،لم أجرؤ على مفاتحتها بما يعتلج في داخلي ، استعيض عن ذلك بالحديث الى طيفها الذي يعيش في مخيلتي ، اصارحه بكل شيء ، أقرأ عليه قصائدي التي كنت اكتبها فيها ، كانت تسمعني جيدا ، تسمعني وهي تبتسم وأنا أقرأ عليها قصائد الحب التي اكتبها لها وحدها ، وحدها فقط ، كل القصائد كنت اكتبها لها هي ، لم يسمعها احد غيرها ، ومنذ اختفت اختفى معها كل شيء ، حتى القصائد تلاشى منها حبرها ، اصبحت بلا حبر وبلا روح ، لتعود بعد خمسة عشر عام لتنبش كل ما حاولت دفنه طيلة السنين التي مرت بصعوبة ، ورغم زواجي الذي دام خمسة اعوام الا ان طيف بثينة كان حاضرا دائما في مخيلتي ، ربما فهمت زوجتي ما كنت اعانيه من عدم قدرتي على نسيان فتاة ما لا تعرفها ولم تستطع ان تعيش مع خيال زوج لم يكن حاضرا منه الا جسد رجل بلا روح ، انفصلنا ثم ذهبت ، اختفت نهائيا وكأنها لم تكن في هذه الحياة ذات يوم ، حاولت أن أخرج من عباءة بثينة ولم يكن ذلك بالأمر السهل ، تطلب من عمري سنوات عديدة ، عادت بعد كل هذا العمر إمرأة اخرى ، لدرجة اني لم اعرفها لأول وهلة ، ربما لأن كل أمل لي برؤيتها من جديد قد انتهى وتلاشى ولم أتوقع ان تكون الصدفة هي من ستجمعنا بعد كل تلك السنين.
    ...........
    على غير العادة تهندمت وحاولت أن أتأنق بقدر المستطاع ، مؤملا نفسي بحياة جديدة بدم جديد يحيي شراييني التي كادت ان تنسى انها لا تزال على قيد الحياة ، بالرغم من مفارقة النوم لعيني طيلة البارحة الا اني اجد قلبي كطفل شقي لا يهدأ ، انظر الى المرآة مرارا كي اعدل من شعري تارة ومن هندامي تارة اخرى ، لا اريد اليوم شيئا يفسد لهفتي ، اليوم لن أضيع الفرصة كما ضيعتها من قبل ، لن أكن جبانا ، سأكلمها عن مشاعري، عن لهفتي ، عما كنت احمله بين ثنايا قلبي عندما كنا ندرس في الجامعه ، عن الحنين ، عن كل شيء.
    ..........
    وصلت الى المستشفى الذي اعمل به اسير منتشيا على غير العادة ، قلبي يتقدمني ، يشير إلي لأتبعه ، أتبعه هو فقط لا غيره ، تمنيت أن اصادفها كما بالأمس ، أتلفت حولي لعلي أراها هنا أو هناك ، لا أجد لها ريحا ، وصلت الى قسمي لأجد زميلي محمود وهويبتسم ابتسامة عريضة ويبادرني بصباح الخير ،
    - أني أرى صلاحا غير صلاحنا.
    - ماذا تقصد بهذا الكلام يا محمود ؟ اني أشم رائحة خبث في كلامك!
    - لا خبث ولا يحزنون ولكني اراك على غير عادتك متأنقا والعطر نشمه منك من على بعد.
    ماذا يحدث ؟
    - لا يحدث شيء.
    .........
    انتظرت وصولها كمراهق على موعد مع فتاته ، لا اريد لمزاجي أي تشويش هذا اليوم ، سيكون ما لم استطع فعله منذ خمسة عشر عاما ، سأعتذر لها أولا عن فعلتي الشنيعة لأني لم ألتفت لها حينما كانت تكلمني ، وبعد ذلك...
    بعد ذلك ماذا ؟ سأشرح لها ما أكنه لها من حب وما عانيته في غيابها عقب تخرجنا من الجامعة ، سأوضح لها أنني كنت أخشى من ردة فعلها ان فاتحتها حينها وفضلت الاحتفاظ بصورتها طيبة جميلة في قلبي على ان تردني خائبا ، لا أريد أن أضيع الفرصة مجددا فإن ضاعت فسيضيع معها كل شيء.
    ....

    - صباح الخير استاذ صلاح.
    - اهلا وسهلا صباح النور وفاء.
    - على غير العادة أجدك اليوم.
    - فيم ؟
    - أشعر بأن هناك شيئا يشغل على تفكيرك أو ربما لا أدري.. هل أساعدك بشيء ؟
    - لا شيء.. لا شيء.. فقط أود أن أسأل سؤالا لو تأذني لي!!
    - ولماذا تحدثني بشكل رسمي ؟ إسأل ما شئت.
    - هل رأيتي الآنسة بثينة ؟
    - الآنسة بثينه ؟ هل تقصد الموظفه الجديدة لدينا بالقسم ؟
    - نعم عينها.
    لا.. لا أظنها ستحضر لدوام هذا اليوم!!
    - لا تحضر ؟ لماذا ؟ مالذي حدث ؟
    - لا أعلم ولكنها اتصلت تخبرنا بأنها لن تتمكن من الحضور لظروف عائلية.
    - ظروف عائلية ؟ هل تقصدين والديها ؟
    - لا أعتقد ذلك. قد تكون ليست على ما يرام!!
    - ماذا تقولين ؟
    - لست متأكدة.. ربما.
    - ربما ماذا ؟
    - ظروف عائلية كما اخبرتك.. هي لم تخبرنا بشيء سوى انها لن تأتي للدوام.

    ........

    شعرت بدوار يغشاني وظلمة تملأ أرجاء المكان ، رأسي سينغجر ، أرتميت على المقعد وذهني مشتت ، لا أستطيع التركيز أو حتى التفكير في أي شيء..
    -هل أنا غبي ؟ هذا السؤال المستفز هو المسيطر الآن على كل كياني، يخنقني ، يشعرني بمدى حمقي وسذاجتي.
    نعم فأنا أحمق بالفعل فكيف لي أن أتخيل بأن الفتاة لا زالت كما هي منذ خمسة عشر عاما لم تتغير ، هل توقف الزمن عندها وبقيت كما هي ؟ ما هذا التفكير الأخرق ؟ لا.. لم يكن تفكيرا !! في الواقع أنا لم أفكر ، لم أتأن أبدا.
    .........
    لا أدري كيف مر الوقت علي في ذلك اليوم ، كان صعبا ، كان جل تفكيري يتركز في امر وحيد وهو مفاتحة بثينة بلواعج قلبي ، مشاعري التي كانت كجمر تحت رماد برزت عند اول ظهور لها من جديد في حياتي ، ظننتها كما تركتها ، وقد تركتها دون ان اخبرها بما في نفسي تجاهها ، لا ألومها فهي لا تعلم ما كنت أشعر به ، لا تعرف أني كنت أحبها.. أحبها كأعظم شيء في حياتي ، تركتها تذهب من غير أن أجرؤ على مفاتحتها بأي شيء.
    .....
    شرودي المستمر كان هو الشيء الملاحظ من قبل الجميع في القسم الذي أعمل فيه ، تغيري المفاجيء والذي أدى الى بعض التقصير كان ملفتا لانتباه زملائي ،
    لم يكن زميلي محمود ببعيد عما يحدث ، ولكنه فضل عدم ازعاجي بتدخل منه لاستقصاء حالي المرتبك.. جل تفكيري منصب حول بثينة.. كيف للأقدار أن تضعها من جديد وبعد كل هذا العمر في طريقي!!
    مشاعر مشتعلة لزمن طويل بدأت منذ سنوات قلائل بالخفوت ليستريح هذا القلب من عناء حب لم يكتمل ، عادت لتبعث ما كان قد قارب على الموت فعلا ، بفضل التقادم ومرور السنين ، ما يحدث لي الآن أمره غريب ، في يومين فقط تشتعل نيران الماضي لتأت بأخضر القلب ويابسه من غير رأفة أو تأني.
    ......
    - صباح الخير استاذ صلاح.
    - صباح النور ليلى.
    - أعتذر منك فلربما أزعجك قليلا ، ولكني ألاحظ بأنك مشغول البال ، على غير عادتك ، لو تود أن أساعدك في ما يشغلك فأنا تحت أمرك.
    - لا إزعاج يا ليلى ، وددت أن أسألك عن بثينة ، الموظفه الجديدة لدينا ، هل تعرفينها ؟
    - بثينة ؟ نعم أعرفها جيدا ، إنها جارتي ، تسكن في الشارع المقابل لبيتنا.
    - جيد ، هي لم تحضر اليوم إلى العمل ، هل حصل لها ما يعيقها عن الحضور الى المستشفى ؟
    - ربما ، أقصد لست متأكدة ولكن قد يكون لديها عذرها.
    - ألم تتصلي بها للإطمئنان عليها ، إنها زميلتنا ؟
    - بالفعل يجب علينا الاطمئنان مع أني أعرف ظروفها الأسرية الصعبة وما تمر به منذ فترة.
    - خيرا!!! ماذا بها ؟
    - لاحقا ربما تخبرك هي بنفسها . سأتصل بها وأعود إليك.
    ......
    ظروف اسرية صعبة ، ما هي هذه الظروف الصعبة التي تمر بها ؟ آه يا ليلى!! كلامك حيرني ، كنت أتمنى أن أسمع ما يريح قلبي ويثلج صدري.
    لماذا بدأت الأمور تتشعب وتأخذ لها طرائق مشتته ؟ تغيب بثينة لمدة طويلة وفجأة تعود بلا أي مقدمات ، تنبش الماضي وتشغل القلب ثم تختفي فجأة ، ثم اتفاجأ بظروفها الصعبة التي لا أعرف ما هي. ماذا يحدث بالضبط ؟
    ...
    أسبوع كامل مر ثقيلا كصخرة تضغط على قلبي ، تمنيت خلاله مرارا لو لم تظهر بثينة في حياتي مجددا ، كل ما أطلبه الآن بعض الهدوء وأن يعود الى روحي توازنها ، وأنى لها التوازن والهدوء بعد أن تناثر رماد كان يحيط بها لتبين جمرات الماضي من تحت ذلك الرماد الذي تراكم على عاطفة لم يكن لها أي عوامل صحيحه لتنمو وتترعرع ذات يوم.
    أأكذب على نفسي حينما أوهمتها بالحب ونحن على مقاعد الدراسة ؟ هل كنت أخدع قلبي وأنا أعرف بأني ما كنت لأجرؤ على القيام بخطوة ولو كانت ضئيلة للأمام لأبرهن لنفسي أولا بأن ما كنت اعيشه هو الحب صدقا ؟
    والأهم الآن هو هل ما زلت أمارس خطيئة إقتراف الكذب على قلبي وأسمي ما أعيشه هو الحب فعلا ؟ أي حب هذا ؟ حُبِّ غَيْرِ مُكْتَمَل النمو!!
    .....
    - صلاح ، هل أنت بخير ؟
    - لم هذا السؤال الآن ؟
    - لا شيء ، فقط لأني ألاحظ أنك في شرود مستمر منذ ايام!! هل استطيع مساعدتك ؟
    - هل رأيتي بثينه ؟
    - نعم ، قبل قليل كانت في مكتب مسؤول القسم!!
    - قبل قليل ؟
    - نعم قبل قليل!

    - لم أرها إذن!!
    - ستراها حتما ، انها هنا وستبقى هنا في هذا القسم.
    - أحقا ؟
    - ماذا هناك ؟
    - لا شيء ، يسعدني أنها هنا ، وأكثر من ذلك أنها ستكون معنا في القسم !!
    - أشم رائحة " شواط " قلب ( تضحك).
    - ما هذا التعبير " الشنيع" ليلى ؟ " شواط" ؟
    - صلاح ان كانت لديك أي حاجة للمساعدة أخبرني هههه
    - لا.. شكرا لك.
    ....
    أشعر بأن لدى ليلى ما تود قوله لي ، نعم ، كانت تلمح لشيء لم أفهمه ، أبعض من كيد نساء ؟
    ضحكاتها على غير العادة ، هل عرفت بأني أحب بثينة ؟ ولكن كيف ستعرف وأنا لم أخبرها ولم أذكر ذاك لأي مخلوق ؟
    ...
    كانت لحظات غير اعتيادية عندما طلبني مسؤول القسم إلى مكتبه ، لا أرتاح له أبدا فأسلوبه جاف وغير مأمون الجانب ، ولكن لا بد لي من الذهاب اليه.
    سمعت صوته وهو يأذن لي بالدخول بعدما طرقت باب مكتبه ، دخلت واذا ببثينة تجلس في الكرسي الى جانب طاولة مكتبه ، تفاجأت كثيرا ، لم يخطر ببالي أن أجدها هنا أبدا ، طلب مني الجلوس ، لم أستطع على الكلام ساعتها! بثينة تجلس أمامي وعلى غير ميعاد ؟؟!!
    ابتسامتها كانت شمس أشرقت على حدائق روحي لتمنحها الدفء والطاقة ، متأنقة كعادتها ، جميلة وكأنها كأول يوم أراها في الجامعه ، رغم مرور خمسة عشر عاما إلا أنها لا تزال كما هي ، نفس الملامح وكأن الزمن نسي أن يمر على سحنتها الرقيقة فبقيت كما هي ، بريق يشع من عينيها يغريني بالتمعن المفرط فيهما ، هما كما كانا مركز كوني ، نظراتها دافئة ، كأول لقاء لنا في مقهى الجامعة.
    - استاذ صلاح ، انها الموظفة الجديدة بثينة ، ستكون المسؤول عن تدريبها على العمل ، هي كانت هنا منذ اسبوع مضى ولكن لظروف شخصية اضطرت لعدم تسلم العمل الى أن تنهي ما كان يعيقها و عادت اليوم ، ارجو ان تعتني بها جيدا.. بإمكانكما الذهاب الآن.
    .....
    لم أتخيل أبدا ان القدر سيكون بهذا السخاء ، أختصر على عاطفتي المتوترة مسافات زمنية ما كنت لأحلم بها ، حتى ظننت أن ما كان يقوله المسؤول محض تهيئات تعصف بمسامعي لا كلام فعلي يقصده موجه إلي أنا لا لشخص آخر.
    ابتسامتها المقتضبة زادت من توتري ، لم استوعب مغزاها ، علامات إستفهام برزت عقب تلك الإبتسامة لم أجد لها مخرجا ، أهو رضا أم تقبل لأمر واقع لا خيار آخر لها سواه ؟
    وضعتني في حيرة بددت سعادتي بتوجيهات المسؤول الأخيرة!!
    خرجت من مكتبه مستأذنة وكنت ألحظ علامات عدم إرتياح على محياها ، لم أستطع التكهن بسببه.
    أستأذنته للخروج ففاجأني بسؤال لم أتوقعه ، هل هناك أمر غير واضح بخصوص هذا الموضوع؟
    - أبدا.. سأبذل جهدي لتدريبها.
    - لا أقصدك أنت بل هي!!
    -لم أفهم ما تعني أستاذ ربيع!!
    - أتصور أنك لاحظت أن تقبلها للموضوع ليس مريحا حسبما كنت أتمنى.
    - لا.. لم ألحظ اي شيء غير طبيعي ، ربما تكون مرهقة أو مريضة ، أو هناك ما يشغل بالها.
    - ربما. أرجو ذلك.
    .....
    عدة أشهر مرت بعد إجتماعنا مع مسؤول القسم لتلقى توجيهاته بخصوص التدريب ، كنت مهتما بأمر آخر يطغى على مسألة التدريب فأنا مدرك بأنها ذكية وتتعلم بسرعه وهي كذلك بالفعل ، كنت أحاول كسر الزجاج العازل للمشاعر الذي تفرضه على قلبها من ساعة وصولها الى هذا المكان ، لم تكن المهمة باليسيرة فالفتاة التي أحببتها أيام الجامعه دون إشعارها بذاك الحب لم تعد هي التي أمامي هنا كل يوم ، كل محاولاتي لكسر الحاجز تبوء بالفشل ، عدة شهور مرت لم أستطع خلالها فهم نوع العلاقة التي تجمعنا ، مشاعري المتأججة تجاهها كأني أسير بها في نفق مظلم لا أرى بصيص ضوء يشعرني بأمل ولو ضئيل في الوصول إلى منطقة مضيئة ولو للحظة معها ، أهي علاقة حب ، صداقة ، زمالة عمل ، ماذا ؟ لا أدري كيف أسميها ، رقتها التي لا يماثلها شيء آخر دافع للإستمرار في ذلك النفق ، لحظات يأس تحوم حول روحي احيانا احاول أن أدفعها بعيدا ، لا أدري إن كنت أستلذ ما أنا فيه أو ما زال ذلك الطالب الجامعي الخجول هو نفسه الذي يغشاني الآن وأخشى أن أبوح بمشاعري مثلما كنت منذ أكثر من خمسة عشر عاما !!
    ...
    أولى خطواتي المهمه في المعركة المحتدمة في داخلي هي البوح لها ، فانتظار اللاشيء أصعب بكثير من التقدم بخطوة للأمام مهما كانت نتيجتها ، وليكن ما شاءت الأقدار.
    مصارحتي لصديقي محمود باعتلاجات الصدر كانت مهمة فثقتي برأيه تزيح بعض الثقل من على روحي المثخنه بالحيرة والتخبط والتوتر.
    - على ما يبدو أن المواجهه هي الخيار الامثل وسواء كانت ردة الفعل إيجابية أو سلبية فأفضل لك من الإستمرار في أمر لا تعرف فيه رأسك من قدميك.
    - وكيف أواجهها ؟ أخشى من ردة فعلها ان صارحتها.
    - إذن فلتكتب لها رسالة.
    - ماذا تقصد بأن أكتب لها رسالة ؟
    - رأيي أن تستأذنها في أن ترسل لها على هاتفها رسالة تخبرها فيها بأمر مهم وانظر ماذا تقول لك.
    - هل تظن بأنها ستوافق ؟
    - جرب ولا تستبق الأحداث.
    - لا أعرف ماذا سأكتب لها!!
    - سأصيغ لك الرسالة وأبعثها لها إن أذنت لك.
    .....
    لم أتوقع موافقتها على طلبي أن يكون بتلك السهولة ، وبالرغم من سعادتي بتجاوبها الا أن توتر أعصابي حينئذ كان في أعلى معدلاته ، لم أعتد على مواجهة الأشياء ، غالبا ما ألجأ الى السلام النفسي ، خسرت الكثير من الاشياء بسبب هذه السلبية التي تقهر ثقتي بنفسي وتكبلني عن مواجهة الحياة ، نظارة سوداء آن الآوان أن أرفعها عن عيني كي أرى الحياة بألوانها المختلفة ، التنازل المستمر سمة مسجلة بإسمي حتى عن الاشياء التي احبها بشدة ، القريبة من نفسي ، لا أشعر بأي رغبة في أن تكون الحياة مختلفة ، تشابه الأيام يشعرني بالاستقرار النفسي ، ها هي سنوات العمر تمر كالسحاب بلا مطر ، أضع اصابعي على أذناي كي لا أسمع رعود الدنيا ، أختبيء تحت لحافي لاجئا الى الظلام كي لا أرى بروقا قد تهطل بعدها أمطارا ، حياة قاحلة جرداء تسير كما شاءت الأقدار ، لم أفكر في صنع أقداري بنفسي أي يوم ، روح مجهدة تتلاعب بها أمواج محيطات الحياة العنيفة.
    آنت اللحظة لأن أكون خلقا آخر ، يمشي تحت أشعة الشمس ، ويركض حاف القدمين تحت انهمار السماء ، رافعا ذراعيه مستقبلا قطرات المطر ، يغني بصوت مسموع ، صوت قد لا يكون رقيقا ولكن يكفي لأن يشعرني بالسعادة ، بحرية الذات ، بالانطلاقة نحو عمر جديد.
    .....
    قرأت الرسالة التي كتبها محمود ، يا إلهي!!
    أقشعر بدني من روعة الكلمات ودقة التعبير ، لم أعدل فيها أي حرف ، الرسالة تعرفها بمشاعري نحوها وطلبي الزواج منها ، وبدون تردد رسلتها لها ، لم يطل الوقت حتى استلمتها وقرأتها.
    لا استطيع أن أخفي توتري ، ارتباكي ، لدرجة أني شعرت بالندم ، ماذا فعلت ؟ أظن أني تسرعت كثيرا!!!
    لا أعلم كيف مرت ليلتي تلك!!! جافاني النوم لكثرة التفكير!! ماذا سيكون غدا ؟
    هل ستوافق ؟ ترفض ؟ تغضب ؟ تنفجر في وجهي غاضبة ؟
    كنت مترددا في الذهاب الى العمل! لا أود المواجهه!! لا احتمل صدمة ردها السلبي! ان رفضتني فسينتهي كل شيء إلى الأبد معها!! كيف ستأتي عيني في عينيها بعد ذلك ؟ لا أعلم كيف سيكون الوضع ونحن نعمل في قسم واحد!
    ...
    ذهبت الى المستشفى أجر قدماي كمن يؤخذ للذبح ، كل من قابلني سألني إن كنت مريضا أو حدث لي مكروه ما ، أقابل كل الاسئلة بابتسامة يكسوها الذبول ، عشرات الأسئلة تدور في ذهني ، هل سأعود إلى بيتي منتصرا، سعيدا ، أم هي القاضية التي ستأتي على كل نبضات قلبي وأملي في حياة جديدة تختلف عما كنت عليها ؟
    تأخرت كثيرا على غير عادتها ، مما (زاد الطين بله) ، منذ أن وضعت قدميها في القسم وهي ملتزمة لا تتأخر ، ما سبب غيابها الى اللحظة ؟
    هواجس كثيرة بدأت تتلاعب بعقلي ، أشعر بأني ارتكبت خطأ ما ، هل تسرعت في إعلان رغبتي بالارتباط بها ، كيف تقبلت الموضوع ؟ إحساسي بأنها مزعجة من تصرفي!!!
    ....
    - عسى الامور تسير بشكل إيجابي ؟
    - لا أعلم!!
    - والمعنى ؟
    - لم أرها ولم ترد بشيء!!
    - لم برأيك تأخرت في الرد ؟
    - ليس لي دراية بأي شيء!
    -هل سألت عنها ؟ ربما لديها ظروف منعتها من المجيء الى الدوام!
    - ربما... لا أعلم.
    - أنت متوتر الآن ،، إهدأ والأمور ستكون كما تحب.. هل سألت عنها ليلى ؟
    - كلا... لم أجرؤ على السؤال عنها.. خشيت من أي صدمة!!
    - أترك عنك التردد وإسأل عنها ، ليلى صديقتها ولا شك أنها تعرفها وتعرف عنها كل شيء.
    - دعني أهدأ أولا.. لا أحب أن تراني مرتبكا .
    - اذن كن هادئا وصبورا ولتدع الارتباك يتجاوزك بهدوء.. ثم اصبر فحري بالصبر أن يحل كل المشكلات.. اغمض عيناك وتنفس طويلا تكن هادئا.
    .....
    لم أر ليلى منذ ايام ، شعرت بأن لا شيء معي ، ليلى غائبة هي الاخرى ، لم أشعر بوجودها أو أهميتها ابدا ، أمرأة عادية ، في شكلها الغير متجدد، في هندامها الذي يكاد لا يتبدل هو الآخر ، حتى اسلوبها الممل في الحديث ، وتعاملها العصبي الممزوج بالطيبة هو هو لم يطرأ عليه أي جديد طيلة السنوات التي قضيناها في العمل معا ، أشعر احيانا بأنها وجدت على الارض كما هي الآن لم تمر بمراحل نمو حياتيه كما البشر ، عندما تنظر إليك بعينيها الجاحظتين يجعلانك تحسب ألف حساب للتعامل معها ومع ذلك فهي إناء طيبة ، لم تتزوج بعد بالرغم من تخطيها الاربعين عاما ، لا تخجل من ذلك عندما يمازحها أحدهم بقوله ستجدين الزوج الذي يسعدك ، تنظر له نظرة مرعبة ثم تتنهد و تقول : أنا منحوسه وتذهب.
    كلمة ( انا منحوسة) أصبحت لازمة تكررها كثيرا.
    لا بثينة هنا لتريح قلبي من هم الانتظار ولا ليلى لأسألها عنها.
    ......
    " عزيزي صلاح.. تحياتي لك على شعورك الجميل تجاهي ولكني اعتذر منك لعدم قدرتي على تلبية طلبك"
    رسالة مقتضبة صادمة تنهي بها كل شيء ، لم استطع استيعاب ردها هذا للوهلة الأولى ، شعرت بأن قدماي لم يعودا قادرين على حملي جلست على كرسي كان الى جانبي مترنحا،
    لماذا ؟ لماذا ترفضني هكذا ؟ أما كان الأجدر بها أن تاخذ بعض الوقت لتفكر ؟ هي لا تعلم شيئا عن حبي لها نعم!! ولكن ما سبب الرفض ؟ آه يا بثينة لو تعلمين عما أحمله لك
    ان في قلبي احاسيس ومشاعر تضطرب كلما رايتك ، فكأني أريد أن أختفي من هذه الدنيا ، واندمج في روحك ، لأن نفسي تواقة إليك ، مولعة بك فأصبحت لا استطيع أن استغني عنك فرفقا بي ، بيديك سعادتي ، ترفضين قلبي قبل أي شيء آخر ، حيث تجهلين ما أحياه رجوعك من جديد الى عالمي ، إلى روحي الذابلة ، الى انكسارات الأيام ، وقفر السنين ، لا تدركين معنى الرفض هذا ، مدية غائرة في روحي تدمي شراييني بلا رحمة أو شفقة.
    ......
    - ماذا حدث ؟
    - لا شيء!!
    - بل حدث أمر ما قلب حياتك رأسا على عقب!!
    - لم يحدث أي شيء!!!
    - هل جاءك رد على رسالتك من بثينة ؟
    - بلى!!
    - لا بد أنها رحبت بك وهذا من هول المفاجأة!!
    - رفضتني ، رفضت حبي، رفضت الارتباط بي ، غرست سكاكينها في قلبي وذهبت!!
    - ماذا تقصد ؟
    - كل شيء انتهى يا صديقي!!
    - لا تتعجل في الحكم عليها ، لا بد من معرفة السبب.
    - وماذا يفيدني إن عرفت السبب ؟
    - ربما تعذرها.
    - أنا لم ألمها كي أعذرها.
    - أظن من الأفضل أن تستأذن لتذهب الى البيت وترتاح.. أنت مرهق الآن وتلزمك راحة لبعض الوقت.
    ......
    الصدمة التي تلقيتها بدأ مفعولها يستشري في كل كياني ، لم أستطع النوم ولا أستلذ طعم الأكل ، كل تفكيري كان منصبا في رسالتها التي كانت كقذيفة أتت على كل مشاعري تجاهها ، عجلة تدور ببطء لا تتوقف ، يعود بي تفكيري إلى سنين عديدة مضت ، أمامي هي ولم أجرؤ على البوح وظل حبي لها حبيس فؤادي لم تطلع عليه ، كنت أتخيلها أمامي ونحن في مقهى نستمتع بلحظات لا تشبهها لحظات أخرى ، كثيرا ما كانت تحدث بيننا لقاءات نخلق فيها كل جماليات اللحظة ، ليل هاديء ، موسيقى رومانسية ، فازة ورود ذات ألوان مختلفة تتوسط الطاولة بيننا ، همساتها تشبه صوت طائر الكناري ، وأصحو بعد كل حلم اعيش فيه معها أجمل لحظات عمري لأستيقظ على حقيقة أنها ليست هنا ، لم تكن معي ، وربما لن تكون معي ذات يوم ، مرت سنوات الدراسة كلها وأنا أذوب في داخلي عشقا لم يكتب له التحليق في سماءها ، لم يشأ له أن يكون هناك طرف آخر حقيقي سوى أنها هنا أراها أمامي كل يوم ولا يكون لي شيء سوى أني أراها ، بلا كلمة مني أعرفها بها أني أحبها ، أعشقها بكل ما أوتيت من حواس ومشاعر وعاطفة ، لم أقدر على تفسير ما كنت فيه من تردد ، أهو جبن ؟ أم خشية أن اصارحها فترفضني وأصحو من حلم يعذبني وأستعذبه ؟ لا تبرير لدي أفهمه، كل ما أعرفه أن كل شيء تلاشى ، أختفت كذرة ملح سقطت في ماء ، لتعود بعدها ويحدث ما كنت أخشى حدوثه ، أقدار أجلت لحظة المواجهه لخمسة عشر عاما ، نار خمدت تحت رماد وبقي جمرها مشتعلا ينتظر لحظات الاشتعال ، لتشتعل بعد كل هذا العمر ، ويذهب كل شيء في لحظات ، مجرد رسالة هاتفية من بضع كلمات تقتل بها كل شيء.
    ......
    - يؤسفني ما جاء في رد بثينة أخي صلاح.
    - قدر الله وما شاء فعل.
    -هو كذلك وأتمنى أن تتجاوز ما أنت فيه سريعا.
    - لماذا جاء ردها بهذا الشكل ؟
    - أتقصد عدم تجاوبها مع طلبك ؟
    - إظنك ستعذرها لو عرفت السبب.
    - وما هو السبب ؟
    - بثينة كانت متزوجه من شاب رائع ، به كل ما تحلم به الفتاة من مواصفات ، أو كما يقولون ( فارس الأحلام) ، عاشا معا حياة سعيدة ، أنجبا خلالها طفل واحد ، وبلا مقدمات توفي زوجها ، قيل أن سبب وفاته هبوط حاد في الدورة الدموية لم يجد ساعتها من ينقذه ،
    عاشت بثينه وطفلها في مأساة الفقد بلا وصف ، لم يكن سهلا عليها أن تفقد زوجها في غمضة عين هكذا ، عانت كثيرا ، أكثر مما تطيق فتاة في عمرها ، ظلت لسنوات حتى أستطاعت تخطي بعضا من محنتها ، وأقول ( بعضا) لأن المسألة ليست بالهينة ، انتسابها للعمل هنا في هذا المستشفى جاء كمحاولة للخروج مما هي فيه ، كي تستطيع العناية بطفلها ، على الأقل من الناحية المعنوية وتربيته بعيدا عن المعاناة العاطفية التي مرا بها..
    - أتقصدين أن طلبي جاء في وقت غير مناسب ؟
    - لا أريد القول بذلك ، فرغم معرفتي بكل ظروفها إلا أنني لم أشأ أن أصارحك بكل هذا.
    - والسبب ؟ أليس كان الأجدر بك أن تخبريني بحكايتها لأختار وقتا أنسب من هذا كي لا تضيع مني بهذه السرعة ؟
    - كان تفكيري منصبا في كيفية إخراجها من واقعها المرير ، لعلها توافق لتبدأ حياة جديدة مع رجل يحبها ولكن حدث ما حدث.
    - حدث ما حدث!!!
    - لا تعلم فلربما تأت الرياح كما شاءت سفنك اخي صلاح.
    - وسأعيش على " ربما" هذه إلى متى ؟
    - يا رجل لا تكن متشاءما هكذا ، فربك يغير من حال إلى حال... ورأيي أنه كان تصرفا جيدا منها أن لم تبقيك على أمل قد لا تستطيع تحقيقه.
    - ربما لا تدركين مدى احساسي بالندم على تلك الخطوة التي قمت بها فما عانيته لسنوات من فقدانها كان حري بي أن لا أغامر بالخوض في معمعة قد أخسر فيها هدوء نفسي الذي استعدته بعد فترة طويلة من اللاهدوء والا إستقرار عاطفي ولكن أحيانا ننجر خلف عواطفنا لا نأبه بما قد سيؤول إليه هذا الإنجرار من آلام تأخذ من حياتنا الكثير.
    - رأيي أن تهدأ ، خذ نفس طويل ، ولو كان بالإمكان أن تبعد قليلا حتى ترتاح وتستعيد هدوءك النفسي ، وخسارة جولة لا يعني خسارة معركة.

    - بقلمي / خليفة سالم الغافري

    تعامل مع هذه الحياه
    وكأنك ممسك بوردة ذات لون ومنظر ورائحة جميلة
    تستنشق شذاها وتحذر شوكها وأنت ممسك بها



ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
جميع الحقوق محفوظة للسبلة العمانية 2020
  • أستضافة وتصميم الشروق للأستضافة ش.م.م