ســـعـيد مصــبـح الغــافــري
26-08-2016, 09:04 PM
جـولـيـت في تـلَّ أبـيـب !!
قصة قصيرة بقلم سعيد مصبح الغافري :
كانت هذه هي المرة الثالثة والأخيرة التي أرى وألتقي فيها بالبطلة المناضلة الرفيقة ( أمـيرة عارب ) في تـل أبـيـب . في مهمتنا الجـديـدة المسماة حـركـيـا ( جوليت ) بدت لي هذه المرة فتاة مختلفة غير التي عرفتها ورافقتني في بعض العمليات داخل إسرائيل . كانت ترتدي بنطرولا أزرقا فاتح الزرقة من نوع جينز ببلوزة بيضاء شبه مفتوحة الصدر وشعر أسود طويل سرحته فصار أمام الرائي أشبه بشلال أسود ناعم منسكب في نهار صباحي دافىء .. كان وجهها الحنطي جميلا وجذابا تزينه أجمل شفتين مبهرتين بروج أحمر وعلى العينين نظارة شمسية أنيقة والقدمين بحذاء ذي كعب عالي يطقطق برنين عذب على الرصيف القرميدي وبوقع هادىء متناسق !! رباه !! أهذه أميرة عارب البطلة العربية المناضلة سليلة دلال سعيد المغربي وجميلة بوحريد وبقية قامات الفخر القومي المشرف المسطر على جبين التاريخ بأحرف من نور ؟! أهذه رفيقتي التي كانت بجواري في عمليات ( دفع الثمن ) و ( دم . دم ) و ( جلنار ) وغيرها الكثير ؟! أهذه أميرة عارب ذات الشعر الثائر كروحها الهادرة والوجه الذي غبرته المعارك و التي لم تعرف من الحياة إلا الكلاشينكوف والرصاص وصراخ الدم والموت ودخان المعرك تظهر أمامي بكل هذه الأناقة والنعومة ؟!
بدت بتلك الهيئة المنفرة والمقززة بوسط ذلك الشارع كائنا من كوكب آخر .. إنسانة غريبة لا يكاد من يعرف أميرة عارب من رفاقها يصدق أن هذه الواقفة هناك وكأنها ممثلة أو مغنية أو عارضة هي عينها أميرة عارب التي ( عن سبعة رجال ) كما يسمونها دائما وهم واثقون من مصداقية التسمية وجدارتها ولياقتها بها .. رباه !!
كانت واقفة هناك كعمود من نور فوق رصيف ذات نهار صباحي الوجه به بعض بقايا من عطر الفجر الراحل قبل سويعات عنا .. اه يا يافا .. عطر برتقالك يلف نديا كل حواسي ويحفز لكتابة شيء عبقي الأحرف والكلمات .. أي شيء عنك وفيك !!
دنوت منها بعد خطوات مشيتها صوبها على ذلك الرصيف الفارغ .. فاجأتني حين أدارت لي رأسها ناظرة إلي بذهول .. حالا قرأت أول سطر كلام في عينيها العسليتين الصافيتين بعد أن رفعت نظارتها الشمسية أعلى جبهتها .. يا للفارق الكبير بين مرآها وهي شبه بعيدة ومرآها الآن وهي أمامي ولا يفصلنا عن بعضنا بعضا إلا متر واحد فقط .. تبادلنا تحايا الصباح بابتسامة رائقة وكمن لا ينسى ما اعتاد عليه قلت وأنا أنظرها بحنان كبير :
ـــ لا إله إلا الله ..
وأكملت كمن يربط عقدا مقدسا بين قلبين :
ـــ محمد رسول الله ..
ولزمنا الصمت وأعيننا موجهة صوب الشارع .. بين الصمت وتلك النظرة المتوحدة الاتجاه مرقت صوبنا سيارة أجرة فأوقفتها وقلت للسائق :
ـــ فندق دانيل هوتيل من فضلك ..
ركبنا .. أنا وهي ونحن غارقان في صمت واحد والسائق يصغي عبر الراديو لنشيد ( هاتيكفاه ) .. ذاك النشيد اللعين الذي منذ صغري وأنا أكره جدا سماعه .. تحملته بصمت مكظوم وأنا أقول في قرارة نفسي بسخرية متهكمة :
ـــ ولا يهمك .. صبراً .. صبراً .. ستسمع اليوم أجمل ( هاتيكفاه ) بعون الله !!
بعد مسافة خمسة كيلو مترات كان التاكسي يقف مباشرة أمام فندق دانيل هوتيل .. بادرت فورا بدفع أجرة التوصيل عني وعنها ولم تبد هي أي إعتراض أو تعليق .. لا وقت الآن لمثل هذه المجاملات .. نزلت بعد أن شكرتني بحرارة وهي سعيدة بهذه الرفقة القصيرة جدا في المكان والطويلة جدا جدا في الشعور .. حملت حقيبة اليد ذات اللون البيج ودخلت الفندق وأنا أتابع سيرها ولم أنتبه للوقت الذي مر ولا للسائق الذي استغرب من عدم نزولي معها فسألني فجأة مستفسرا وفي صوته تذمر خفي :
ـــ هل ستنزل سيدي ؟! أم نواصل ؟!
تنبهت لصوته وقلت بنبرة هادئة :
ـــ لا . إنتظر قليلا وسأدفع لك ثمن الإنتظار أيا كانت مدته ..
بشراهته اليهودية رد موافقا على الفور وهو يستعين بالصبر وعلى وجهه إستغراب وربما ارتياب أيضا :
ـــ حسنا . كما تحب ..
بقيت مسمرا عيناي في بوابة مدخل الفندق بكل انتباه ويقظة بينما السائق غرق في بحر هاتفه النقال ودخل عوالمه الخاصة لدرجة خيل إلي أنه غير موجود .. بعد ربع ساعة رأيتها تخرج من نفس مدخل الفندق .. تنحنح السائق ناظرا لساعة يده كمن أفاق من غيبوبة أو نومة عميقة .. نظرني بصبر يوشك أن ينفد وقد تلون وجهه وصار محتقنا مليئا بالأسئلة التي أكاد أقرأ محتواها بوضوح لكني لزمت الصمت غير آبه به ولا بما يعتمل الآن في نفسه .. لمحته ينظر معي إلى تلك الفتاة الحسناء ذات الشعر الطويل الخارجة من الفندق .. قلت له آمرا :
ـــ من فضلك .. إضغط على بوق السيارة الآن ..
وبدت نظرته بلهاء وهو يسمعني أطلب منه هذا الطلب الغريب .. لكنه وبشكل مازوخي أسرع وضغط ثلاث ضغطات على بوق السيارة فانتبهت الفتاة إلى صوت بوق التاكسي وهرولت صوبنا بعدما رأتني وتيقنت من ملامحي .. ركبت في المقعد الخلفي في اللحظة التي قلت أنا للسائق :
ـــ إلى مطعم شالوم عاز ..
أخيرا قال السائق وهو يتنفس الصعداء ويشغل السيارة :
ـــ حاضر سيدي ولا يهمك ..
أرادت أن تقول شيئا فقلت مقاطعا :
ـــ سنتناول إفطار صباحنا هناك .. لا تعليق ..
وصلنا مطعم شالوم عاز .. عند طاولة منزوية هناك جلسنا لوحدينا ، ودون أي كلام ؛ أكلنا بسرعة ما طلبنا من وجبة ثم خرجنا .. قلت لها هامسا :
ـــ سنذهب إلى بيتي .. ليس بعيدا من هنا .. مسافة خطوات .. هيا بنا ..
ووافقتني .. الواقع لم يكن ثمة بيت بمعنى بيت أملكه هنا في هذه المدينة بل حجرة صغيرة جدا استأجرتها .. حجرة عزوبية صغيرة مع حمام وسرير صغير للنوم ودولاب ملابس ومقعد .. هذا كل البيت !!
داخل الحجرة المغلقة كنت أنا جالسا على طرف السرير أما هي فجلست قريبا مني على ذلك المقعد الوحيد الموجود بالحجرة .. كانت منذ غادرنا المطعم ومنذ دخلنا الحجرة ساهمة وهي لا تكف عن النظر إلى ساعة يدها كل حين وحاجباها مقطبان .. كان القلق ينتش قلبها نتشا أي نتش !!
ـــ إهدئي صديقتي .. هل تم كل شيء حسب التخطيط ؟
سألتها بلهفة مستفتحا معها سيل أسئلة سريعة مهمة فردت بثقة :
ـــ نعم سيدي .. خدرته .. بعد نصف ساعة لن يكون في الدنيا .. حتى أنني خرجت وقد أوصدت عليه باب الحجرة بالمفتاح ..
قلت بحماس :
ـــ جميل . جميل جدا .. والقنبلة .. هل تم توقيتها بشكل مضبوط وصحيح ؟
أجابت :
ـــ نعم .. ماذا تـنـتـظـر ؟! لـنغادر تل أبيب فوراً ..
سألتها متمهلا وأنا أنظر لساعة يدي وأقدر الوقت الكافي فعلا للمغادرة :
ـــ هل رآك أحد وأنت تدخلين الغرفة ؟
ردت بنفس نبرة الثقة :
ـــ لم ألمح أحدا .. كان الممر وقتها لحسن الحظ خاليا من المارة وكل شيء تم على خير ما يرام .. ننتظر فقط النتيجة ..
وصمتت ثم قالت بقرف :
ـــ اااخ . يا للوقح !!
ضحكت وأنا أرى قرف وجهها وعينيها :
ـــ ما بك ؟! هل عضك هذا الكلب ؟!
قالت وهي تبصق لعابا من فيها على ورقة محارم صغيرة كانت في يدها :
ـــ حاول .. لكني تفاديت العضة بذكاء .. إن لحمي ــ كما تعلم ــ مر المذاق ..
وأطلقت ضحكة خفيفة عذبة شاركتها فيها .. واستدركت تقول وهي تخرج شيئا من جيب بنطرولها الجينز وتناولني إياه :
ـــ هاك ..
تناولت هذا الشيء متفحصا .. كانت ورقة مطوية بشكل مربعي .. بدت عادية لكني ما كدت أفتحها حتى قلت بذهول وقد جحظت عيناي :
ـــ أوووه . يا إلهي !! أرى هنا أرقاما وحروفا وإيميلات وأسماء !!
أكدت موضحة بنشوة منتصر غانم :
ـــ هذه أرقام هواتف وعناوين الكترونية مهمة جدا تخص حاسوبه وحساباته النتية .. عثرت عليها في محفظته إحتفظ بها ستنفعنا في مهمات ما فلا تضيعها .. نسخة منها لدي قمت بتصويرها ..
أجبت وأنا أتناول منها الورقة كمن يستلم غنيمة حرب :
ـــ حسنا .. هذا جيد ..
عادت تقول بامتنان كبير بعد هنيهة صمت بيننا :
ـــ شكرا لك سيدي على اهتمامك .. أنا آسفة .. لقد أتعبتك معي ..
قلت مبتسما :
ـــ لا تشكريني أرجوك .. نحن إخوة ورفاق في النضال ..
بعد نصف ساعة كانت الطائرة التي أقلتنا في رحلة خروجنا قد غادرت مطار بن جوريون متجهة إلى أنقرة ومن أنقرة سنسافر معا إلى مكان آخر مجهول لا نود الافصاح عنه .. بعد هذا التوقيت بالضبط كانت وسائل الاعلام بالعالم كله تضج في خبر عاجل بوقوع انفجار مدوي في فندق دان هوتيل وضابط برتبة عقيد يدعى راعيم شاح بين القتلى .. الدمار هائل .. راعيم شاح هذا هو نفسه المجرم الحقير قائد الفرقة التي ارتكبت أفظع مذبحة بحق أهالي قرية المناضلة أميرة عارب .. أميرة عارب التي فقدت كل أسرتها في تلك المذبحة الرهيبة .. هاهي توفي بنذرها وتقتص من قاتل والديها وأخوتها وأهالي قريتها .. في الطائرة التي أقلتنا معا كانت بجواري في المقعدين اللذين كنا جلسنا عليهما في تلك الرحلة .. لم نبد أي إنفعال أو حركة أو حتى صوت .. عبر الفرح الصامت كنت أضغط بيدها مهنئا لها على عمليتها الناجحة .. نظرتني بعينين مغرورقتين بالدمع .. كنت أقرأ ما في هذا الدمع من فرح تخالطت معه صور أسرتها وبقية ضحايا قريتها الوادعة وقد تناثرت جثثهم بدمها الزكي في كل مكان .. ربت على يدها بصمت وعيناي تتابعان عبر شاشة تلفاز الطائرة نبأ العملية ومقتل ذلك اللعين فيها .. كنا فخوران بما قمنا به من واجب وكانت على الدرب القادم مهمات أخرى تنتظرنا ووطنا يستئن فجرا سعيدا وبشرى لخلاص قادم يستحثه صهيل الكفاح والنضال ..
بقلمي / سعيد مصبح الغافري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قصة قصيرة بقلم سعيد مصبح الغافري :
كانت هذه هي المرة الثالثة والأخيرة التي أرى وألتقي فيها بالبطلة المناضلة الرفيقة ( أمـيرة عارب ) في تـل أبـيـب . في مهمتنا الجـديـدة المسماة حـركـيـا ( جوليت ) بدت لي هذه المرة فتاة مختلفة غير التي عرفتها ورافقتني في بعض العمليات داخل إسرائيل . كانت ترتدي بنطرولا أزرقا فاتح الزرقة من نوع جينز ببلوزة بيضاء شبه مفتوحة الصدر وشعر أسود طويل سرحته فصار أمام الرائي أشبه بشلال أسود ناعم منسكب في نهار صباحي دافىء .. كان وجهها الحنطي جميلا وجذابا تزينه أجمل شفتين مبهرتين بروج أحمر وعلى العينين نظارة شمسية أنيقة والقدمين بحذاء ذي كعب عالي يطقطق برنين عذب على الرصيف القرميدي وبوقع هادىء متناسق !! رباه !! أهذه أميرة عارب البطلة العربية المناضلة سليلة دلال سعيد المغربي وجميلة بوحريد وبقية قامات الفخر القومي المشرف المسطر على جبين التاريخ بأحرف من نور ؟! أهذه رفيقتي التي كانت بجواري في عمليات ( دفع الثمن ) و ( دم . دم ) و ( جلنار ) وغيرها الكثير ؟! أهذه أميرة عارب ذات الشعر الثائر كروحها الهادرة والوجه الذي غبرته المعارك و التي لم تعرف من الحياة إلا الكلاشينكوف والرصاص وصراخ الدم والموت ودخان المعرك تظهر أمامي بكل هذه الأناقة والنعومة ؟!
بدت بتلك الهيئة المنفرة والمقززة بوسط ذلك الشارع كائنا من كوكب آخر .. إنسانة غريبة لا يكاد من يعرف أميرة عارب من رفاقها يصدق أن هذه الواقفة هناك وكأنها ممثلة أو مغنية أو عارضة هي عينها أميرة عارب التي ( عن سبعة رجال ) كما يسمونها دائما وهم واثقون من مصداقية التسمية وجدارتها ولياقتها بها .. رباه !!
كانت واقفة هناك كعمود من نور فوق رصيف ذات نهار صباحي الوجه به بعض بقايا من عطر الفجر الراحل قبل سويعات عنا .. اه يا يافا .. عطر برتقالك يلف نديا كل حواسي ويحفز لكتابة شيء عبقي الأحرف والكلمات .. أي شيء عنك وفيك !!
دنوت منها بعد خطوات مشيتها صوبها على ذلك الرصيف الفارغ .. فاجأتني حين أدارت لي رأسها ناظرة إلي بذهول .. حالا قرأت أول سطر كلام في عينيها العسليتين الصافيتين بعد أن رفعت نظارتها الشمسية أعلى جبهتها .. يا للفارق الكبير بين مرآها وهي شبه بعيدة ومرآها الآن وهي أمامي ولا يفصلنا عن بعضنا بعضا إلا متر واحد فقط .. تبادلنا تحايا الصباح بابتسامة رائقة وكمن لا ينسى ما اعتاد عليه قلت وأنا أنظرها بحنان كبير :
ـــ لا إله إلا الله ..
وأكملت كمن يربط عقدا مقدسا بين قلبين :
ـــ محمد رسول الله ..
ولزمنا الصمت وأعيننا موجهة صوب الشارع .. بين الصمت وتلك النظرة المتوحدة الاتجاه مرقت صوبنا سيارة أجرة فأوقفتها وقلت للسائق :
ـــ فندق دانيل هوتيل من فضلك ..
ركبنا .. أنا وهي ونحن غارقان في صمت واحد والسائق يصغي عبر الراديو لنشيد ( هاتيكفاه ) .. ذاك النشيد اللعين الذي منذ صغري وأنا أكره جدا سماعه .. تحملته بصمت مكظوم وأنا أقول في قرارة نفسي بسخرية متهكمة :
ـــ ولا يهمك .. صبراً .. صبراً .. ستسمع اليوم أجمل ( هاتيكفاه ) بعون الله !!
بعد مسافة خمسة كيلو مترات كان التاكسي يقف مباشرة أمام فندق دانيل هوتيل .. بادرت فورا بدفع أجرة التوصيل عني وعنها ولم تبد هي أي إعتراض أو تعليق .. لا وقت الآن لمثل هذه المجاملات .. نزلت بعد أن شكرتني بحرارة وهي سعيدة بهذه الرفقة القصيرة جدا في المكان والطويلة جدا جدا في الشعور .. حملت حقيبة اليد ذات اللون البيج ودخلت الفندق وأنا أتابع سيرها ولم أنتبه للوقت الذي مر ولا للسائق الذي استغرب من عدم نزولي معها فسألني فجأة مستفسرا وفي صوته تذمر خفي :
ـــ هل ستنزل سيدي ؟! أم نواصل ؟!
تنبهت لصوته وقلت بنبرة هادئة :
ـــ لا . إنتظر قليلا وسأدفع لك ثمن الإنتظار أيا كانت مدته ..
بشراهته اليهودية رد موافقا على الفور وهو يستعين بالصبر وعلى وجهه إستغراب وربما ارتياب أيضا :
ـــ حسنا . كما تحب ..
بقيت مسمرا عيناي في بوابة مدخل الفندق بكل انتباه ويقظة بينما السائق غرق في بحر هاتفه النقال ودخل عوالمه الخاصة لدرجة خيل إلي أنه غير موجود .. بعد ربع ساعة رأيتها تخرج من نفس مدخل الفندق .. تنحنح السائق ناظرا لساعة يده كمن أفاق من غيبوبة أو نومة عميقة .. نظرني بصبر يوشك أن ينفد وقد تلون وجهه وصار محتقنا مليئا بالأسئلة التي أكاد أقرأ محتواها بوضوح لكني لزمت الصمت غير آبه به ولا بما يعتمل الآن في نفسه .. لمحته ينظر معي إلى تلك الفتاة الحسناء ذات الشعر الطويل الخارجة من الفندق .. قلت له آمرا :
ـــ من فضلك .. إضغط على بوق السيارة الآن ..
وبدت نظرته بلهاء وهو يسمعني أطلب منه هذا الطلب الغريب .. لكنه وبشكل مازوخي أسرع وضغط ثلاث ضغطات على بوق السيارة فانتبهت الفتاة إلى صوت بوق التاكسي وهرولت صوبنا بعدما رأتني وتيقنت من ملامحي .. ركبت في المقعد الخلفي في اللحظة التي قلت أنا للسائق :
ـــ إلى مطعم شالوم عاز ..
أخيرا قال السائق وهو يتنفس الصعداء ويشغل السيارة :
ـــ حاضر سيدي ولا يهمك ..
أرادت أن تقول شيئا فقلت مقاطعا :
ـــ سنتناول إفطار صباحنا هناك .. لا تعليق ..
وصلنا مطعم شالوم عاز .. عند طاولة منزوية هناك جلسنا لوحدينا ، ودون أي كلام ؛ أكلنا بسرعة ما طلبنا من وجبة ثم خرجنا .. قلت لها هامسا :
ـــ سنذهب إلى بيتي .. ليس بعيدا من هنا .. مسافة خطوات .. هيا بنا ..
ووافقتني .. الواقع لم يكن ثمة بيت بمعنى بيت أملكه هنا في هذه المدينة بل حجرة صغيرة جدا استأجرتها .. حجرة عزوبية صغيرة مع حمام وسرير صغير للنوم ودولاب ملابس ومقعد .. هذا كل البيت !!
داخل الحجرة المغلقة كنت أنا جالسا على طرف السرير أما هي فجلست قريبا مني على ذلك المقعد الوحيد الموجود بالحجرة .. كانت منذ غادرنا المطعم ومنذ دخلنا الحجرة ساهمة وهي لا تكف عن النظر إلى ساعة يدها كل حين وحاجباها مقطبان .. كان القلق ينتش قلبها نتشا أي نتش !!
ـــ إهدئي صديقتي .. هل تم كل شيء حسب التخطيط ؟
سألتها بلهفة مستفتحا معها سيل أسئلة سريعة مهمة فردت بثقة :
ـــ نعم سيدي .. خدرته .. بعد نصف ساعة لن يكون في الدنيا .. حتى أنني خرجت وقد أوصدت عليه باب الحجرة بالمفتاح ..
قلت بحماس :
ـــ جميل . جميل جدا .. والقنبلة .. هل تم توقيتها بشكل مضبوط وصحيح ؟
أجابت :
ـــ نعم .. ماذا تـنـتـظـر ؟! لـنغادر تل أبيب فوراً ..
سألتها متمهلا وأنا أنظر لساعة يدي وأقدر الوقت الكافي فعلا للمغادرة :
ـــ هل رآك أحد وأنت تدخلين الغرفة ؟
ردت بنفس نبرة الثقة :
ـــ لم ألمح أحدا .. كان الممر وقتها لحسن الحظ خاليا من المارة وكل شيء تم على خير ما يرام .. ننتظر فقط النتيجة ..
وصمتت ثم قالت بقرف :
ـــ اااخ . يا للوقح !!
ضحكت وأنا أرى قرف وجهها وعينيها :
ـــ ما بك ؟! هل عضك هذا الكلب ؟!
قالت وهي تبصق لعابا من فيها على ورقة محارم صغيرة كانت في يدها :
ـــ حاول .. لكني تفاديت العضة بذكاء .. إن لحمي ــ كما تعلم ــ مر المذاق ..
وأطلقت ضحكة خفيفة عذبة شاركتها فيها .. واستدركت تقول وهي تخرج شيئا من جيب بنطرولها الجينز وتناولني إياه :
ـــ هاك ..
تناولت هذا الشيء متفحصا .. كانت ورقة مطوية بشكل مربعي .. بدت عادية لكني ما كدت أفتحها حتى قلت بذهول وقد جحظت عيناي :
ـــ أوووه . يا إلهي !! أرى هنا أرقاما وحروفا وإيميلات وأسماء !!
أكدت موضحة بنشوة منتصر غانم :
ـــ هذه أرقام هواتف وعناوين الكترونية مهمة جدا تخص حاسوبه وحساباته النتية .. عثرت عليها في محفظته إحتفظ بها ستنفعنا في مهمات ما فلا تضيعها .. نسخة منها لدي قمت بتصويرها ..
أجبت وأنا أتناول منها الورقة كمن يستلم غنيمة حرب :
ـــ حسنا .. هذا جيد ..
عادت تقول بامتنان كبير بعد هنيهة صمت بيننا :
ـــ شكرا لك سيدي على اهتمامك .. أنا آسفة .. لقد أتعبتك معي ..
قلت مبتسما :
ـــ لا تشكريني أرجوك .. نحن إخوة ورفاق في النضال ..
بعد نصف ساعة كانت الطائرة التي أقلتنا في رحلة خروجنا قد غادرت مطار بن جوريون متجهة إلى أنقرة ومن أنقرة سنسافر معا إلى مكان آخر مجهول لا نود الافصاح عنه .. بعد هذا التوقيت بالضبط كانت وسائل الاعلام بالعالم كله تضج في خبر عاجل بوقوع انفجار مدوي في فندق دان هوتيل وضابط برتبة عقيد يدعى راعيم شاح بين القتلى .. الدمار هائل .. راعيم شاح هذا هو نفسه المجرم الحقير قائد الفرقة التي ارتكبت أفظع مذبحة بحق أهالي قرية المناضلة أميرة عارب .. أميرة عارب التي فقدت كل أسرتها في تلك المذبحة الرهيبة .. هاهي توفي بنذرها وتقتص من قاتل والديها وأخوتها وأهالي قريتها .. في الطائرة التي أقلتنا معا كانت بجواري في المقعدين اللذين كنا جلسنا عليهما في تلك الرحلة .. لم نبد أي إنفعال أو حركة أو حتى صوت .. عبر الفرح الصامت كنت أضغط بيدها مهنئا لها على عمليتها الناجحة .. نظرتني بعينين مغرورقتين بالدمع .. كنت أقرأ ما في هذا الدمع من فرح تخالطت معه صور أسرتها وبقية ضحايا قريتها الوادعة وقد تناثرت جثثهم بدمها الزكي في كل مكان .. ربت على يدها بصمت وعيناي تتابعان عبر شاشة تلفاز الطائرة نبأ العملية ومقتل ذلك اللعين فيها .. كنا فخوران بما قمنا به من واجب وكانت على الدرب القادم مهمات أخرى تنتظرنا ووطنا يستئن فجرا سعيدا وبشرى لخلاص قادم يستحثه صهيل الكفاح والنضال ..
بقلمي / سعيد مصبح الغافري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ