همس الأفكار
12-07-2016, 02:34 PM
* قد تكون طويلة قليلاً ولكنها تستحق القراءة والتفكر ( الحمدلله )
صدِقني أنتَ لست مريضاً !
كل القِصص و إن تشابهَت في تفاصيلِها إلا أنّ لها طعماً خاصاً إن كان بطلها مريض!
اخترتُ أن أكون حكيمة ، فقررتُ أن أصبح ممرضة ، لأنّ الألم الذي نراهُ على وجهِ مريض بإمكانهُ أن يعلمنا درساً لن تلقنا إياهُ أكبر الجامعات! حتى صرتُ الحائط الذي يستند عليه الكثير من المرضى! ، مستشفى الأمراض النفسية لم يكن يجمع أمراضاً فقط بل قصصاً غير مروية شاءت الأقدار أن تُروى أخيراً !
أمرٌ ممتِع أن يُقلِب الإنسان صفحات غيره ، لكنه موجع جداً أن تكون تلك الصفحات فارغة إلا من ألم!
كل الوجوه تقلَصت في حياتي التمريضية إلا وجهَ هُـذام! شابٌ على عتبةِ العشرين من عُمرِه ، رأيته يضمحِل أمامي ، منذ اللحظة الأولى التي طلب فيها الدكتور منّا أن نتوَجه و نختارُ المريض الذي نُشخِصُ فيها حالته ، شدّني وجههُ المكفهِر القَطوب ، و أسمالهِ الدرنة ، طريقة جلوسه الغريبة ، يضمُ ركبتيه إليه ، و يُغمض عينيهِ بقوة أحياناً ، يهزُ جسدهُ هزاً غريباً بين الجهتين كطفلٍ ضائِع! اقتربتُ منه متجاهلة حجم الخوف الذي يسكنني ، سألته عن اسمه مراراً أردتُ منه جواباً ، أو حتى نظرة ضيقة ، أو ابتسامة باهتة ، دون جدوى ، لقد كان ينظُر عالياً مُتجاهلاً كل الأصوات التي تتسربَل من حوله!
ابتسمت و سألته بلطف :أجبني ما اسمك أنا هُنا لأجلك.
أجاب أخيراً و عيناهُ لا زالت تُحلق عالياً : هُـذام.
:اسمك قوي جداً . كيف حالك هُذام ؟
:اسمي قوي ، أنا ضعيف ، أنا مريض!
:أخبِرني مما تشكو ؟
:من قلبي ، قلبي لا ينبض!
: يموتُ الإنسان إذا توقف نبض القلب هُذام ، و أنتَ أمامي علئ قيدِ الحياة.
: لا لا ، أنا ميت منذ فترَة ، ما ترينهُ مجرد خيال.
: حسناً ، هل لي أن أعرِف ما الذي جاء بخيالك إلى هذا المشفى!
صمت هُذام ، و أغمض عينيه بقوة مرةً أخرى ، كأنّهُ يخبرني بأنّه انزعج من حديثي بشدة!
خبايا النفس تظلُ في النفس ، و آلامنا إن لم نبوح بها تبقى ناراً تتلظى
تسائلتُ حينها ، ما الذي زجّ بشابٍ مثله إلى هُنا ! بقِي هُـذام صامتاً ذلك اليوم ، كنتُ مجبَرة لاختيارِ مريض آخر لأُجري عليه
Mental status examination) كما تعَلمنا ، لكني بقيتُ مُحتارة ، لا أدري لما شعرت أنّ الحياة قد تُعلمني شيئاً من هُذام ،أعي تماماً أن عيناه تحكي قِصة ، و كان يجب عليّ فهمها! ، قبل نصف ساعَة من انتِهاء وقتِ العمل بالمشفى أخبرني الدكتور عن حالة هُذام و أنّه يعاني من حالة اكتئاب منذ مدّة طويلة ، عدتُ لهُذام ، وجدتهُ في الحديقة جالساً على الكرسي بنفسِ طريقة جلوسه الغريبة تلك ، ينظُر عالياً صوب الشمس دون أن يُحرِك رأسه!
:هُذام ، عيناك ستؤلمك إن بقيت تنظر للشمس مباشرة هكذا!
هُذام: الشمس لن تؤذيني ، لأنّها تُحبني.
سألتهُ مبتَسمة : و أنت هل تُحبها ؟
:نعم.
:إذن لماذا لا تكن مثلها ؟
ضحك هُذام حينها سخرية مني: هه ، غبية! أنا لستُ مجنون .
بقيتُ مبتسمة و أجبته رغم خوفي من مزاجه الذي تغيّر فجأة: أنا أيضاً أُحاول أن أكون مثل الشمس هُذام! تغيبُ الشمس كل يوم ، لكنها و في كلِ صباحٍ تُشرق إشراقاً آخر بعد غيابها ، و كأنّها تُخبرنا أن الظلام لن يغلبها أبداً ، و ستبقى صامِدة لتُسعِد كل من يراها ، مثلكَ تماماً الآن!
صمت هُذام ، و رفع رأسهُ عالياً صوب الشمس و أغمض عينيه بقوة حتى خالَ إلي أن عيناه ستسقط حينها.
:هُذام ، مضطرة للذهابِ الآن ، سألتقي بكَ مجدداً بإذنِ الله ، فكِر جيداً بأمرِ الشمس .
ابتسمت حينَ رفع يلوح بيدهِ مودعاً و على شفاهه طرف ابتِسامة.
يومها عدتُ سعيدة جداً ، لكن شيئاً ما بعينِ هُذام يستفز فضولي لأعرف عنه أكثر ، بعد أُسبوع كان أول ما فعلته حين وصلت للمشفى ، بحثتُ عن هُذام ، و لحسن الحظ كان جالساً في الحديقة.
:هُذام! كيف حالك اليوم ؟
أجاب و على وجهه ملامح البرود: أحاول أن أكون مثل الشمس!
ابتسمت ، هذا يعني أن هُذام لم يتجاهل كلامي يومها.
:هذهِ المرّة هل ستحدثني عنك هذام ؟
و على عكس الصمت الذي توقعته ، بدأ هُذام الحديث ، بدأ يشكو عن سوء تربية والديه التي صنعت منه ابناً شقي ، عن المشاكل التي لم تتوقف أبداً بين أمه و أبيه حتى وصل حالهم للطلاق ، عن الوحدة التي جعلتهُ يحاول الانتحار مراراً ، عن طرده من الجامعة لأنّه فشل في كل المواد ، عن قلبه الذي لا يرحل الضيق منه أبداً ، و عن و عن و عن بقي هُذام يتحدث عن كل ما قد كان مغلقاً عليه في صدره ، يبتَسم تارةً و يعقد حاجبيهِ تارةً أخرى ، و يغمض عينيهِ بقوة كلما تحدث عن شعورهِ بالوحدة! لا أُخفي شعوري ، لم أتوقع أبداً أن أرى حالة اكتئاب بهذهِ الشدة أمام عيني ، باعتبار أنّ المسلم لا يعيش وحيداً أبداً ما دام الله معه!
لم تكن حالة هُذام انفصاماً و لا اكتئاباً و لا اضراباً هلوسياً ، لقد كانت اضراب إيماني! لأنّ القلب إن لم ينشغل بالثقةِ بالله يُفقد الإنسان مرونته في التشكل حسب أوعية الحياة.
صمت طويلاً أُرتِب أفكاري لأُلقيها على رأس هُذام اليائِس. و توصلتُ أخيراً إلى حل قد يعينه ، مرّت في ذهني حينها آية كريمة اعتدتُ أن أتذكرها بعد كلِ مصيبة تواجهني في حياتي ، فسألتُ هُذام بعد تردد : هُذام ، هل صليت اليوم ؟
هذام: منذ مدة طويلة لم أسجد لله سجدة!
:لماذا ؟
صمت حينها هُذام ، فأردفتُ قائلة:
جرّب دواء من نوعٍ آخر هذهِ المرّة ، الله تعالى يقول: "قال آيتكَ أن لا تُكلمَ النّاس ثلاثة أيامٍ إلا رمزاً ، و اذكر ربك كثيراً و سبّح بالعشيّ و الإبكار" و أيّم الله يا هُذام ما أصابتني مشكلة في حياتي إلا و حلت بعد هذهِ الآية ، اعتَزل النّاس بوجهٍ جديد ، اعتزل النّاس جميعاً و اقتَرب ممن هو أقرب إليك من حبلِ الوريد ، صدِقني أنتَ لست مريضاً يا هُذام ، تنقصكَ القوة فقط ، و تحتاجُ إلى دافعٍ داخلي يقودك إليها!أنتَ لا تستحقُ أن تبقى في حفرةٍ مظلمة و تقضي فيها تاريخ حياتكَ كاملاً ! ، بل عليكَ أن تجِد النور ، و لا أعرِفُ نوراً أعظم من كتاب الله و الاقتراب منه!
أعلَم أنّ ما مررتَ به صعب ، لكننا لم نخلُق في هذهِ الحياة لنرتاح!
هُذام: ماذا أفعل؟ أخبريني ، هل سأكون طبيعياً إن فعلتُ ذلك ؟
حُرِم علينا أن نعقد وعوداً للمرضى ، و هذا يعتبر من أهم القوانين التي يجب أن نتبِعها عند التعامل معهم ، لكنني يومها تجاوزتَ ذلك القانون حين أيقنت أنّ وعداً مثل وعدي لا يمكن أن أخونه فيه ، و عليه سأتحمَل المسؤولية بعدها إن لم يشفى هُذام! أخبرتهُ بكل جرأة: من القلبِ عهداً يا هُذام ، إن تقربتَ من الله و اعتزلتَ الدنيا لثلاثة أيام بذكرِك و طاعتكَ وقرآنك ستشفى مما أنتَ عليه الآن!
لم يجُبني ، لكن كان بعينيهِ نظرة أخبرتني بأنّه سيفعل ذلك ، سيعود لله ، ليعود الله إليه ، ليرتاح من سخافات الحياة ، ليكتسِب قلبه مرونته من جديد!
لن أنسى ما حييت وجهَ هُذام ، غادرت المشفى و في قلبي أمل بأن أرى هُذام على قيدِ الحياة ، لم ألتَقي بهِ بعدها أبداً ، بقيتُ أتسائَل كيف صارَ حاله بعد آخر حديث بيننا ؟ أهو بخير ! عدتُ بعد ثلاثة أسابيع للمشفى ، و ما إن سنحت لي الفرصة ، رحتُ أسأل الممرضات عن هُـذام ، و لم يكن هذام شخصاً عادياً ليُنسى ، فقد بقيت صورته خالِدة في ذاكرة كل الممرضين بالقِسم.
أجابتني ممرضة بابتِسامة: لقد غادر المشفى أخيراً ، و قد تركَ لكِ رسالة!
هكذا قوة الإيمان تصنع! و حتى يرتاح الإنسان عليهِ أن يعلم أولاً أن الله على كل شيء قدير !و إن أراد الوصول إلى أعلى مستويات الراحَة ، فلن يكسبها من أيّ إنسان بل من قربه من خالقه ..♡
هذا ما قاله هزام في رسالته :
"لم أكن مريض نفسياً ! كان قلبي ضعيفاً فقط ، شُكراً لكِ فقد عرفتُ الطريق الصحيح لكسبِ القُوة! "
هزام
صدِقني أنتَ لست مريضاً !
كل القِصص و إن تشابهَت في تفاصيلِها إلا أنّ لها طعماً خاصاً إن كان بطلها مريض!
اخترتُ أن أكون حكيمة ، فقررتُ أن أصبح ممرضة ، لأنّ الألم الذي نراهُ على وجهِ مريض بإمكانهُ أن يعلمنا درساً لن تلقنا إياهُ أكبر الجامعات! حتى صرتُ الحائط الذي يستند عليه الكثير من المرضى! ، مستشفى الأمراض النفسية لم يكن يجمع أمراضاً فقط بل قصصاً غير مروية شاءت الأقدار أن تُروى أخيراً !
أمرٌ ممتِع أن يُقلِب الإنسان صفحات غيره ، لكنه موجع جداً أن تكون تلك الصفحات فارغة إلا من ألم!
كل الوجوه تقلَصت في حياتي التمريضية إلا وجهَ هُـذام! شابٌ على عتبةِ العشرين من عُمرِه ، رأيته يضمحِل أمامي ، منذ اللحظة الأولى التي طلب فيها الدكتور منّا أن نتوَجه و نختارُ المريض الذي نُشخِصُ فيها حالته ، شدّني وجههُ المكفهِر القَطوب ، و أسمالهِ الدرنة ، طريقة جلوسه الغريبة ، يضمُ ركبتيه إليه ، و يُغمض عينيهِ بقوة أحياناً ، يهزُ جسدهُ هزاً غريباً بين الجهتين كطفلٍ ضائِع! اقتربتُ منه متجاهلة حجم الخوف الذي يسكنني ، سألته عن اسمه مراراً أردتُ منه جواباً ، أو حتى نظرة ضيقة ، أو ابتسامة باهتة ، دون جدوى ، لقد كان ينظُر عالياً مُتجاهلاً كل الأصوات التي تتسربَل من حوله!
ابتسمت و سألته بلطف :أجبني ما اسمك أنا هُنا لأجلك.
أجاب أخيراً و عيناهُ لا زالت تُحلق عالياً : هُـذام.
:اسمك قوي جداً . كيف حالك هُذام ؟
:اسمي قوي ، أنا ضعيف ، أنا مريض!
:أخبِرني مما تشكو ؟
:من قلبي ، قلبي لا ينبض!
: يموتُ الإنسان إذا توقف نبض القلب هُذام ، و أنتَ أمامي علئ قيدِ الحياة.
: لا لا ، أنا ميت منذ فترَة ، ما ترينهُ مجرد خيال.
: حسناً ، هل لي أن أعرِف ما الذي جاء بخيالك إلى هذا المشفى!
صمت هُذام ، و أغمض عينيه بقوة مرةً أخرى ، كأنّهُ يخبرني بأنّه انزعج من حديثي بشدة!
خبايا النفس تظلُ في النفس ، و آلامنا إن لم نبوح بها تبقى ناراً تتلظى
تسائلتُ حينها ، ما الذي زجّ بشابٍ مثله إلى هُنا ! بقِي هُـذام صامتاً ذلك اليوم ، كنتُ مجبَرة لاختيارِ مريض آخر لأُجري عليه
Mental status examination) كما تعَلمنا ، لكني بقيتُ مُحتارة ، لا أدري لما شعرت أنّ الحياة قد تُعلمني شيئاً من هُذام ،أعي تماماً أن عيناه تحكي قِصة ، و كان يجب عليّ فهمها! ، قبل نصف ساعَة من انتِهاء وقتِ العمل بالمشفى أخبرني الدكتور عن حالة هُذام و أنّه يعاني من حالة اكتئاب منذ مدّة طويلة ، عدتُ لهُذام ، وجدتهُ في الحديقة جالساً على الكرسي بنفسِ طريقة جلوسه الغريبة تلك ، ينظُر عالياً صوب الشمس دون أن يُحرِك رأسه!
:هُذام ، عيناك ستؤلمك إن بقيت تنظر للشمس مباشرة هكذا!
هُذام: الشمس لن تؤذيني ، لأنّها تُحبني.
سألتهُ مبتَسمة : و أنت هل تُحبها ؟
:نعم.
:إذن لماذا لا تكن مثلها ؟
ضحك هُذام حينها سخرية مني: هه ، غبية! أنا لستُ مجنون .
بقيتُ مبتسمة و أجبته رغم خوفي من مزاجه الذي تغيّر فجأة: أنا أيضاً أُحاول أن أكون مثل الشمس هُذام! تغيبُ الشمس كل يوم ، لكنها و في كلِ صباحٍ تُشرق إشراقاً آخر بعد غيابها ، و كأنّها تُخبرنا أن الظلام لن يغلبها أبداً ، و ستبقى صامِدة لتُسعِد كل من يراها ، مثلكَ تماماً الآن!
صمت هُذام ، و رفع رأسهُ عالياً صوب الشمس و أغمض عينيه بقوة حتى خالَ إلي أن عيناه ستسقط حينها.
:هُذام ، مضطرة للذهابِ الآن ، سألتقي بكَ مجدداً بإذنِ الله ، فكِر جيداً بأمرِ الشمس .
ابتسمت حينَ رفع يلوح بيدهِ مودعاً و على شفاهه طرف ابتِسامة.
يومها عدتُ سعيدة جداً ، لكن شيئاً ما بعينِ هُذام يستفز فضولي لأعرف عنه أكثر ، بعد أُسبوع كان أول ما فعلته حين وصلت للمشفى ، بحثتُ عن هُذام ، و لحسن الحظ كان جالساً في الحديقة.
:هُذام! كيف حالك اليوم ؟
أجاب و على وجهه ملامح البرود: أحاول أن أكون مثل الشمس!
ابتسمت ، هذا يعني أن هُذام لم يتجاهل كلامي يومها.
:هذهِ المرّة هل ستحدثني عنك هذام ؟
و على عكس الصمت الذي توقعته ، بدأ هُذام الحديث ، بدأ يشكو عن سوء تربية والديه التي صنعت منه ابناً شقي ، عن المشاكل التي لم تتوقف أبداً بين أمه و أبيه حتى وصل حالهم للطلاق ، عن الوحدة التي جعلتهُ يحاول الانتحار مراراً ، عن طرده من الجامعة لأنّه فشل في كل المواد ، عن قلبه الذي لا يرحل الضيق منه أبداً ، و عن و عن و عن بقي هُذام يتحدث عن كل ما قد كان مغلقاً عليه في صدره ، يبتَسم تارةً و يعقد حاجبيهِ تارةً أخرى ، و يغمض عينيهِ بقوة كلما تحدث عن شعورهِ بالوحدة! لا أُخفي شعوري ، لم أتوقع أبداً أن أرى حالة اكتئاب بهذهِ الشدة أمام عيني ، باعتبار أنّ المسلم لا يعيش وحيداً أبداً ما دام الله معه!
لم تكن حالة هُذام انفصاماً و لا اكتئاباً و لا اضراباً هلوسياً ، لقد كانت اضراب إيماني! لأنّ القلب إن لم ينشغل بالثقةِ بالله يُفقد الإنسان مرونته في التشكل حسب أوعية الحياة.
صمت طويلاً أُرتِب أفكاري لأُلقيها على رأس هُذام اليائِس. و توصلتُ أخيراً إلى حل قد يعينه ، مرّت في ذهني حينها آية كريمة اعتدتُ أن أتذكرها بعد كلِ مصيبة تواجهني في حياتي ، فسألتُ هُذام بعد تردد : هُذام ، هل صليت اليوم ؟
هذام: منذ مدة طويلة لم أسجد لله سجدة!
:لماذا ؟
صمت حينها هُذام ، فأردفتُ قائلة:
جرّب دواء من نوعٍ آخر هذهِ المرّة ، الله تعالى يقول: "قال آيتكَ أن لا تُكلمَ النّاس ثلاثة أيامٍ إلا رمزاً ، و اذكر ربك كثيراً و سبّح بالعشيّ و الإبكار" و أيّم الله يا هُذام ما أصابتني مشكلة في حياتي إلا و حلت بعد هذهِ الآية ، اعتَزل النّاس بوجهٍ جديد ، اعتزل النّاس جميعاً و اقتَرب ممن هو أقرب إليك من حبلِ الوريد ، صدِقني أنتَ لست مريضاً يا هُذام ، تنقصكَ القوة فقط ، و تحتاجُ إلى دافعٍ داخلي يقودك إليها!أنتَ لا تستحقُ أن تبقى في حفرةٍ مظلمة و تقضي فيها تاريخ حياتكَ كاملاً ! ، بل عليكَ أن تجِد النور ، و لا أعرِفُ نوراً أعظم من كتاب الله و الاقتراب منه!
أعلَم أنّ ما مررتَ به صعب ، لكننا لم نخلُق في هذهِ الحياة لنرتاح!
هُذام: ماذا أفعل؟ أخبريني ، هل سأكون طبيعياً إن فعلتُ ذلك ؟
حُرِم علينا أن نعقد وعوداً للمرضى ، و هذا يعتبر من أهم القوانين التي يجب أن نتبِعها عند التعامل معهم ، لكنني يومها تجاوزتَ ذلك القانون حين أيقنت أنّ وعداً مثل وعدي لا يمكن أن أخونه فيه ، و عليه سأتحمَل المسؤولية بعدها إن لم يشفى هُذام! أخبرتهُ بكل جرأة: من القلبِ عهداً يا هُذام ، إن تقربتَ من الله و اعتزلتَ الدنيا لثلاثة أيام بذكرِك و طاعتكَ وقرآنك ستشفى مما أنتَ عليه الآن!
لم يجُبني ، لكن كان بعينيهِ نظرة أخبرتني بأنّه سيفعل ذلك ، سيعود لله ، ليعود الله إليه ، ليرتاح من سخافات الحياة ، ليكتسِب قلبه مرونته من جديد!
لن أنسى ما حييت وجهَ هُذام ، غادرت المشفى و في قلبي أمل بأن أرى هُذام على قيدِ الحياة ، لم ألتَقي بهِ بعدها أبداً ، بقيتُ أتسائَل كيف صارَ حاله بعد آخر حديث بيننا ؟ أهو بخير ! عدتُ بعد ثلاثة أسابيع للمشفى ، و ما إن سنحت لي الفرصة ، رحتُ أسأل الممرضات عن هُـذام ، و لم يكن هذام شخصاً عادياً ليُنسى ، فقد بقيت صورته خالِدة في ذاكرة كل الممرضين بالقِسم.
أجابتني ممرضة بابتِسامة: لقد غادر المشفى أخيراً ، و قد تركَ لكِ رسالة!
هكذا قوة الإيمان تصنع! و حتى يرتاح الإنسان عليهِ أن يعلم أولاً أن الله على كل شيء قدير !و إن أراد الوصول إلى أعلى مستويات الراحَة ، فلن يكسبها من أيّ إنسان بل من قربه من خالقه ..♡
هذا ما قاله هزام في رسالته :
"لم أكن مريض نفسياً ! كان قلبي ضعيفاً فقط ، شُكراً لكِ فقد عرفتُ الطريق الصحيح لكسبِ القُوة! "
هزام