نوارة الكون
11-07-2016, 09:35 AM
( أضغاث أحلام )
بينما كنت جالسةً على أنقاض منزلنا , رأيت جدارًا انحنى وارتكز على الحطام بعد أن أتعبه الوقوف , فاستظليت تحته أنا وأفراد عائلتي الذين لا يزالون عند الله أحياءً يرزقون , وتوسدّتُ حجرًا كان يحمل سقف منزلنا و وضعت عليه رأساً مُثقلاً بالهموم , وتلحفت الغبار الذي تنهدَته المنازل ألمًا بعد سقوطها , وبدأت حينها أفكر بالهجرة بحثاً عن مراهقتي التي قضيتها وأنا أستمع إلى أجيج النيران التي التهمت موطني سوريا عِوضاً عن ألحانهِ الشامية العتيقة , وجال بخاطري أن أترك معه ذكريات تسعةَ عشر عامًا قضيتها فيه ؛ لأبحث عن مكانٍ أستطيع فيه أن أعيش مراهقتي من جديد .
أعتقد بأنّ جدران المنزل شعرت بوجودي , واعتقد بأن جدران غرفتي شعرت بذلك أيضًا , بل حتى سريري ؛ لأنّني شعرت براحة الاستلقاء عليه بالرغم من أنّني أستلقي على الأنقاض , استسلمت له , فسرقني كعادته وقذفني إلى عالم الأحلام .
كنت واقفةً أشاهد غروب الشمس في الأفق من شرفة منزلٍ خشبيٍ أبيض اللون , نظرت للأسفل فوجدت عجوزًا تتوسد حقيبتها على كرسي خشبيٍ طويلٍ , تأملتها للحظاتٍ , ثم وجهت عينايَ إلى عمود الإنارة الذي كان خلفها مع إضاءة فتيلته , ثم نظرت للعجوز مجددًا فرأيت فراغًا بجانبها على الكرسي استطيع الجلوس فيه , خرجت من المنزل ثم توجهت لذلك الكرسي , وجلست بجانبها بكل هدوءٍ ؛ لكي لا أزعجها , نظرت للمنزل الذي نزلت منه قبل قليل , تأملت الشرفة التي كنت واقفةً خلفها , وهمست قائلةً : هذا الواقع الذي لطالما حلمت به . وفجأةً سمعت صوت صديق طفولتي جمال يقول : ملاك .. ملااك .. ملاااك ..
استيقظت العجوز على صوت جمال وكأنها رأت كابوسًا , وبدأت تتحدث بكلامٍ مبهمٍ لم أجد له معنى .
استيقظت فإذا بجمال أمامي , فجلست ثم نفضت الغبار الذي علق بيدايَ معلنةً اكتفاءي بما عاشيته , وبدأت أحاول بأن أُقنع جمال بالهجرة فلم أستطع , فأجبرته عليها عندما أخبرته كذبًا بأنّي سأهاجر ولو بمفردي ؛ لأنّي كنت واثقةً بأن قلبه لن يسمح له .
تجاوزنا آلاف الأميال بواسطة جميع سبل المواصلات التي عرفتها البشرية باستثناء الطائرات وما بعدها , كانت رحلةً مريرةً جُرح خلالها كبريائنا , وكادت تضيع أن إنسانيتنا في محطاتها , ولكنّها بالرغم من كلّ هذا كانت أرحم من الجحيم الذي تعيشه بلادي سوريا .
وها نحن أخيرًا تحت سماء ليبيا الصافية على إحدى شواطئها , عشية يوم السبت نستعد لعبور البحر الأبيض المتوسط متجهين إلى محطتنا الأخيرة , إلى إحدى جزر ليونان .
توسدّت فخذ جمال متأملةً بأن تسقط جبال الخوف التي استوطنت كتِفَيْ , شعرت بشيءٍ من الراحة , غوتُ دون أن أشعر , فراودني ذات الحلم الذي رأيته في المرة الأولى من غروب الشمس , إلى صوت جمال وهو يقول : ملاك .. ملااك .. ملاااك ..
استيقظت , رفعت رأسي عن فخذه فوقف مسرعًا , أمسك يساري بيمينه ليساعدني على النهوض , وقفت بجانبه فأحكم قبضته عليْ , بدأنا نركض ورمال الشاطئ تتطاير من خلفنا جرّاء خطواتٍ تجهل بأنها تسير نحو قدرين مختلفين , ثم توقفنا بمحاذاة مياه البحر ننتظر وصول القاربان اللذان لاحا لنا في الأفق .
تسللت مياه البحر لليابسة من تحتنا كأنها تتسابق للنجاة من ظلمة أعماقه , وتسابق الناس من حولنا بعد وصول القاربان في دفع كلّ ما يملكونه للابتعاد عن الجحيم بقدر المستطاع , صاح جمال بصوته معلنًا عمّا بحوزتنا , ولكن في كلّ مرةٍ يظهر من يملك ضعف ما لدينا , وعندما أوشك القاربان على الامتلاء صاح جمال مجددًا , فنظر له صاحب القاربان ثم نظر من حوله وقال : هل هناك من سيدفع أكثر ؟
لم يجد لسؤاله جوابًا , فنظر إليّ وإلى جمال وقال : أنتما آخر الركاب , ولكن لسوء الحظ لا يوجد إلّا مكانٌ واحد في كل قارب , أي أنكما ستفترقان .
اعترض جمال على كلام ذلك الرجل , وكاد أن يلغي الصفقة فمنعته عن ذلك وقلت له : إنّ الملاجئ في اليونان تكاد تكون خالية , وها نحن على وشك أن نضع نقطة النهاية لرحلتنا , أرجوك لا تدعنا نفوّت هذه الفرصة , خصوصًا بأننا نعلم بأنّ كل ما سنواجهه سيكون أرحم من العودة لسوريا , حتى الموت ذاته .
اقتنع جمال بما قلته , فأعطى الأموال لصاحبها الجديد , ثم ساعدني على ركوب أحد القاربان , وقبل أن يتوجه للقارب الآخر أخرج عددًا من الأوراق الرسمية من جيبه , وبدأ يقلبها فرأيت الأوراق الخاصة بأفراد عائلته الذين لا يزالون عند الله أحياءً يرزقون , وفي النهاية سلمني الأوراق الخاصة بي وقال : يجب أن تكون أوراقك معك من الآن وصاعدًا , لا أريد أن أبتعد عنك ولو للحظة , ولكن ما باليد حيلة , انتبهِ لنفسك , وفي رعاية الرحمن .
تكفلت دموع عيني بالرد على خطبته القصيرة عندما عجز لساني , فمسحتها ونظرت فيمن حولي , كان القارب متوسط الحجم ويحمل قرابة خمسين شخصًا لا يوجد بينهم موطئٌ لقدم , كان الزحام فوق القارب شديدًا ولكن بالرغم من كلّ هذا انطلق القاربان في نفس اللحظة , ولكن بعد بضع لحظاتٍ أخرى سبقنا قارب جمال حتى أختفى في الأفق خلف ستارة الليل .
انقضت تسع ساعاتٍ على انطلاقنا معلنةً في نهايتها انقضاء نصف الرحلة , تسع ساعاتٍ تكبدت بعدها السماء الصافية بطبقاتٍ من غمامٍ زاد حلكة الليل سوادًا , فهطل المطر منها فسمعنا استهلاله , ثم بدأ يزداد شيئًا فشيئًا حتى تحول صوته للهزيم حدّ التهكم , لم يكتفي البحر باستقبال ضربات المطر والمشاهدة , بل ثارت أمواجه بامتعاضٍ لتضرب ما فوقها , فكان قاربنا هو الضحية فتهشم , سقطنا منه وأصبحنا جزءًا من صراع الطبيعة هذا , بدأت أصرخ خوفًا ولكن مياه البحر المالحة قيدت فمي لأغرق بصمت , فأطلقت سراحه وحاولت الصراخ مجددًا ولكن لا صوت يعلو على صوت المطر , انقطع نفسي , أردت أن أستنشق القليل من الهواء ولكن موجةً قيد الإنشاء سحبتني للأسفل ثم ارتفعت شامخةً وهوَت بكل ذلٍ لتغرقني , فتحت فمي تحت المياه بحثًا عن الهواء من شدّة حاجتي إليه , فخرج ما تبقى منه في صدري على هيئة فقاعة يتيمة تسبح للأعلى , سبحت خلفها كما لو كنت أركض خلف روحي , رأيتها تعانق الهواء عند سطح المياه , لحقت بها , وعند السطح أخذت نفسًا عميقًا أعادها وأعاد معها الحياة إلى صدري .
توقف المطر , هدأت الأمواج وسكنت سَوْرَتُها , افترقت الغيوم , نظر القمر إلينا بكلٍ أسًا وأمدّنا بنوره متأسفًا لما حدث لنا , سمعت تأوُّه الرجال , ونحيب النساء , ونواح الأطفال , نظرت من حولي فوجدت طوق نجاة يسبح وحيدًا رغم حاجة الجميع له , سبحت باتجاهه وأحكمت قبضتي عليه عندما أمسكت به , أو بالأصح عندما أمسك هو بي .
بقيت في حجره حتى شعرت بالوهن في عضلات يداي , بل حتى خارت قواي , نظرت من حولي مجددًا فرأيت أناسًا متعلقين بحيواتهم على بقايا القارب , ورأيت أناسًا يتأرجحون على هوى وإرادة آثار الأمواج وبقاياها , ورأيت القليل منهم يجلسون على قوارب النجاة عوضًا عن البقاء في حجرها , فقررت تقليدهم .
انقضى الوقت فاختفت بعض الأصوات مع اختفاء أرواح أصحابها , انقضى حتى بزغ نور الفجر وأنقذ من تبقى منّا من ظلمتَيْ الليل والبحر , انقضى حتى أشرقت الشمس لتعلن بقاء قرابة عشرين شخصًا على قيد الحياة , ولترينا الجثث التي كانت تسبح حولنا , كان منظرًا وحشيًا , وعلى الرغم من هذا فقد كان أرحم من وحشة الليل .
انقضت الثواني ، فتلتها الدقائق والساعات , حتى أصبحت الشمس فوقنا تمامًا , فخلقت هذه الظروف في داخلي شخصيةً مكبلةً بالأفكار السوداوية , وخانقةً بذلك أحلام المنام وأحلام اليقظة التي أردت تحقيقها , كنت أفكّر في جمال الذي يفترض بأن قاربه قد رسا على الشواطئ اليونانية في مثل هذا الوقت , وفي ما الذي سيفعله بعد مماتي , فأنا من أجبرته على الهجرة معي , وأنا من قد أتركه يحارب الغربة وحيدًا , أردت أن أفكر فيما هو أسوء من ذلك , ولكنّ حرارة الشمس وصلت لذروتها , فتبخرت كل الأفكار من رأسي , أصبت بالجفاف , وازدادت درجة حرارة مياه البحر الذي ترسبت أملاحه على جلدي لتضاعف شعوري الحُرقة , وازداد عدد الجثث جرّاء الهجير .
بدأت الشمس في النزول من قبة السماء حتى حان وقت الأفول , وفي لحظاته الأخيرة جاءتني امرأة تسبح وطفلها معلقٌ على ظهرها , سلّمتْنِي طفلها وقالت : اسمه ربيع , وهو في الرابعة من عمره , وأنا لا أستطيع أن أتحمل أكثر من هذا , أرجوكِ تولّي أمره .
وضعْتُه في حجري , ثم وضعْتُ يميني على عينيْه لكي لا يشاهد أمه وهي تغرق أمامه بالرغم من فقدانه لوعيه , جرفت الأمواج جثة والدته , فبلّلْتُ وجهه بمياه البحر المالحة لعله يستيقظ ويقاتل معي ومع من تبقى من حولي , ولكن بلا فائدة .
انقضت الساعات بعد ذلك فعادت ظلمة الليل وعدنا لكمّاشة الظلمتين , انقضت الساعات حتى جاءت الساعة الباردة قَرْسًا بعد منتصف الليل , فعادت الأمواج في هذه الساعة لصراعها الأزليّ الذي لن ينتهي حتى وإن زالت البشرية , انقضت الساعات حتى انقضت معها تلك الليلة على هذا المنوال معلنةً انقضاء يومٍ كامل على تهشم قاربنا .
بدأت الشمس تصعد على سُلّمِ السماء , وقبل أن تصل للقمة ببضع ساعات أدركت بأنّ روح ربيع عرجت للسماء متجاوزةً الشمس وتاركةً جسده خاويًا في حجري , أردت أن أرمي جسده في البحر لأتخلص من حمله , ولأخفف من روعة قلبي الذي أبى بأن يجعل جسده البريء طعمًا لما في الأعماق .
شعرت باقتراب نهايتي , ونظرت من حولي للمرة الأخيرة فلم أجد أحدًا ؛ لأنّ الأمواج تكفلت بنأي من بقيَ على قيد الحياة من حولي , استَسلمت جوارحي فارتخت معها لهفة النجاة من كل ليفٍ في كلّ جزءٍ من عضلاتي , فاختلج قلبي ثم بدأ يخفق بنبرة متخاذلة , ثم ارتعد عندما لاحت لعيني سفينة في الأفق تشق البحر نحوي , حاولت أن أجذب انتباه ركابها ولكن يدايَ أبت بأن تشير لهم , وأبت كذلك حبال صوتي بأن تستنجد بهم , فسقطت جفون عيني لتخذلني هي الأخرى .
فتحت عيني للحظة واسترقت النظر فرأيت عشراتٍ من الناس من حولي , وبعد مقدار رمشة بتوقيت الإنهاك وجدت نفسي على سريرٍ صغيرٍ في مؤخرة مروحية يتعالى هديرها , وبعد رمشةٍ أخرى بذات التوقيت وجدت أناسًا من حولي يسعون بي على ذات السرير في شارعٍ ما , سقط رأسي على خده الأيمن , فاسترقت عينايَ النظر لمن ههم حولي , فرأيت جمال يسير مبتعدًا بعكس اتجاه سعي الناس بي , فخذلتني جفوني مرةً أخرى وسقطت قبل أن تتأكدّ عينايَ مما رأته .
لا أدري كم انقضى من الوقت , ولكنه انقضى بالمقدار الذي يحتاجه جسدي ليستعيد جزءًا من صحته . وجدت نفسي على سريرٍ أبيض يحيطه صفير الأجهزة وتحيطه الستائر , و وجدت أنابيبًا تتصل بجسدي من طرفٍ , وتتصل بقوارير تتأرجح فوق رأسي من الطرف الآخر , حاولت أن استعيد الأحداث الأخيرة التي حُفِظَتْ في ذاكرتي كصورٍ مشوَّشة بلا ملامح , بدأت أقلبها بالرغم من هذا , فشعرت بأنّي رأيت جمال , أغمضت عينايَ بشدّةٍ لعل الصورة تتضح قليلًا , ولكنّ صوت انسدال الستارة الأمامية جعلني أفتح عينايَ مجددًا . رأيت ممرضةً بدأت تتحدث إليَّ فور دخولها بنبرة مبتسمة وبلغةٍ لا افهمها , وبعد ثوانٍ معدودة تغيرت نبرتها إلى نبرةٍ جادةٍ لا تبشر بالخير .
لم أفهم شيئًا مما قالته فأخبرَتْها ملامحي بذلك , فأسدلت الممرضة الستارة الجانبية , فرأيت امرأةً بهيئةٍ سورية على السرير الذي بجانبي , قامت الممرضة بتوجيه الكلام الذي حدثتني به لتلك المرأة , فترجمته تلك المرأة قائلةً : إنها تتحمد لكٍ على السلامة , وتقول لكِ يجب أن تغادري هذا المشفى اليوم بالرغم من أنّ فترة نقاهتك لم تنتهي , ولكن المشفى لا يستطيع إبقاءك لأنك لا تحملين أوراقًا تثبت شخصيتك .
ثم نَظَرَتْ للمرضة وأومأت لها برأسها بأن الترجمة قد تمت , ثم قالت : حمدًا لله على سلامتك , اسمي هدى , ما اسمكِ ؟
فأجبتها : أنا ملاك , لكن أخبريني أين أنا ؟
فقالت : إطمئني , أنتِ في المشفى العام لمدينة أييا غاليني في اليونان. ثم سألتني قائلةً ما الذي حدث معك ؟ وهل تريدين الاتصال على أحد ؟
فأخبرتها بما جرى لي منذ مغادرة شواطئ ليبيا حتى هذه اللحظة فقالت ودموعها تشق مجراها على خديْها : الحمد لله رب الظلمات الذي أنقذك منها , عزيزتي لا تندمي على هجرتك بسبب ما حصل , لأنّ البحر في النهاية كان أرحم وأرأف من طغيان قوات النظام , عزيزتي إنّ بقاءك ليومٍ كامل فيه من غير زادٍ أرحم من بقاءك لأسبوع أو أكثر محاصرةً ومن غير زاد .
فقلت لها : ونعم بالله . وبعد لحظةٍ أكلمت قائلةً : لم تخبريني بقصتك ؟
فقالت : هاجرت من سوريا ووصلت إلى هذه المدينة مع أبي وأمي وأخي الصغير قبل ثلاثة أعوام , وقبل يومان تعرضت لحادث دهسٍ عندما كنت أقطع أحد الشوارع مع أخي , وأصبت في رأسي , هذا كلّ ما أذكره , وها أنا اليوم أستعد للخروج والعودة للمنزل , بالمناسبة بما أنك ستغادرين المشفى اليوم مثلي لما لا تأتين معي للمنزل ؟
أجبتها : لا , أُقَدّر لكِ هذا , سأبحث عن صديقي أولًا , ثم سأبحث عن الملاجئ التي أعدتها الحكومة اليونانية فربما أجده ينتظرني هناك .
في هذه اللحظة جاءت الممرضة وقامت بنزع كل الأنابيب التي كانت معلقةً بجسدي , ثم وضعت اللباس الذي كنت أرتديه خلال رحلتي على طرف السرير بعد أن قامت بتنظيفه , ثم قامت بذات الأمر مع هدى , وبعد أن أصبحنا جاهزتان للمغادرة قالت لي هدى : ستأتين معي للمنزل فأنت ما زلتي تحتاجين لبعض الراحة , وعندما تستعيدين كامل قواك قومي بما تريدين .
لم أجد سببًا يجعلني أرفض عرضها للمرة الثانية , فأنا فعلًا أحتاج للراحة ؛ لأنّني لو بدأت أبحث عن جمال وأنا بهذه الحالة فسينتهي بيَ المطاف مرميةً على أحد الأرصفة . وافقت على عرضها , وغادرت من المشفى برفقتها , وعند بوابة المشفى ركبنا سيارة أجرة ؛ لأنها لم تشأ أن تزعج والدها وهو في عمله كما سبق وأن أخبرتني .
كانت أجوبة هدى على أسئلتي خلال طريق العودة لمنزلها كفيلةً بأن تعيد معايرة ساعتي البيولوجية , فهي من أخبرتني أنّ الساعة الآن تشير للرابعة عصرًا , وهي من أخبرتني بالتاريخ الذي استطعت أن استنتج من خلاله أنّ يومان فقط انقضت , منذ أن تم انقاذي بواسطة أولئك البحارة .
وصلنا بعد ذلك للمنزل , فاستقبلتنا والدتها استقبالًا حارًا فور دخولنا , عرّفتها بنفسي , وتبادلنا بعد ذلك أطراف الحديث بعدما اتصلت أم هدى بزوجها لتتطلب منه شراء شيءٍ للعشاء بعد أن أخبرته بوجود ضيفٍ اليوم , احمرت وجنتايَ خجلًا فحدثتها قائلةً : أرجوكم لا تتبعوا أنفسكم , لا داعي لكل هذا .
فقالت أم هدى : زوجي سيذهب للمشفى لإنهاء بعض الإجراءات المتعلقة بحادث هدى بعد انتهاء عمله , وذلك الشارع مليء بالمطاعم , لذا فلا تعب في ذلك .
انقضى الوقت حتى جاء وقت الزوال , وفي تلك اللحظة أخذتني هدى لغرفةٍ كانت في الطابق الثاني من المنزل وقالت : خذي قسطًا من الراحة , إذا حان موعد العشاء سأخبرك .
دخلت الغرفة فرأيت شرفةً في نهايتها , ذهبت لها , فوجدت نفسي واقفةً أشاهد غروب الشمس في الأفق من شرفة منزلٍ خشبيٍ أبيض اللون , نظرت للأسفل فوجدت عجوزًا تتوسد حقيبتها على كرسي خشبيٍ طويلٍ , تأملتها للحظاتٍ , ثم وجهت عينايَ إلى عمود الإنارة الذي كان خلفها مع إضاءة فتيلته , ثم نظرت للعجوز مجددًا فرأيت فراغًا بجانبها على الكرسي استطيع الجلوس فيه , خرجت من المنزل ثم توجهت لذلك الكرسي , وجلست بجانبها بكل هدوءٍ ؛ لكي لا أزعجها , نظرت للمنزل الذي نزلت منه قبل قليل , تأملت الشرفة التي كنت واقفةً خلفها , وهمست قائلةً : هذا الواقع الذي لطالما حلمت به . وفجأةً سمعت صوت صديق طفولتي جمال يقول : ملاك .. ملااك .. ملاااك ..
فاستيقظت العجوز على صوت جمال وكأنها رأت كابوسًا , فنظرت من حولي , رأيت جمال يركض باتجاهي , سبقني قلبي إليه , فلحقت به وقفزت إلى صدره , سألته ودموعي تنهمر كسيلٍ جارف : كيف وجدتني ؟
فأجاب : قبل يومان تعرضت ابنة الرجل الذي يقف خلفي لحادث دهس عندما كانت تقطع أحد الشوارع برفقة أخيها , فنزل سائق السيارة ليطمئن عليها , ثم رحل عندما رأى هيئتها السورية .
رفضت المستشفيات احتوائها لأنها لم تكن تحمل أوراقها الرسمية , فأدخلتها للمشفى العام بأوراق والدتي , واليوم عدت للمشفى عندما ترجم إليَ أحد الأشخاص الخبر الذي حملته إحدى الصحف اليونانية قبل يومان , والذي يفيد بأن المشفى العام استقبل الناجين من قارب الموت , وحينما عدت للمشفى وقبل أن أدخل إليه , تعرّف أخو الفتاة التي أنقذتها عليْ , واخبر والده الذي منعني من الدخول للمشفى كوني مطلوبًا أمنيًا فيه ؛ لأنّني أدخلت إليه مريضًا بصفةٍ غير شرعية , فأخبرته بأمرك ودخل يسأل عنك عوضًا عنّي , فقالوا له بأنكِ غادرت منذ ساعات .
كنت أريد أن أبحث عنك وأن أتجه للملاجئ التي أعدتها الحكومة اليونانية , ولكنه أصرَّ على أن أرتاح في منزله لمّا علم بأنّني لم أتوسد إلّا الأرصفة وبأنّني لم آكل شيءً يسد الجوع منذ لحظة وصولي .
كانت العجوز لا تزال مرعوبةً منذ أن استيقظت , ذهبت إليها وسألتها بمقلتي هل أنتِ بخير ؟
فقالت بلغة السلام التي يجب أن تفهمها سائر البشرية : بينما كنت جالسةً على أنقاض منزلنا , رأيت جدارًا انحنى وارتكز على الحطام بعد أن أتعبه الوقوف , فاستظليت تحته أنا وأفراد عائلتي الذين لا يزالون عند الله أحياءً يرزقون , وتوسدّتُ حجرًا كان يحمل سقف منزلنا و وضعت عليه رأساً مُثقلاً بالهموم , وتلحفت الغبار الذي تنهدَته المنازل ألمًا بعد سقوطها , وبدأت حينها أفكر بالهجرة بحثاً عن مراهقتي التي قضيتها وأنا أستمع إلى أجيج النيران التي التهمت موطني سوريا عِوضاً عن ألحانهِ الشامية العتيقة , وجال بخاطري أن أترك معه ذكريات تسعةَ عشر عامًا قضيتها فيه ؛ لأبحث عن مكانٍ أستطيع فيه أن أعيش مراهقتي من جديد .
بينما كنت جالسةً على أنقاض منزلنا , رأيت جدارًا انحنى وارتكز على الحطام بعد أن أتعبه الوقوف , فاستظليت تحته أنا وأفراد عائلتي الذين لا يزالون عند الله أحياءً يرزقون , وتوسدّتُ حجرًا كان يحمل سقف منزلنا و وضعت عليه رأساً مُثقلاً بالهموم , وتلحفت الغبار الذي تنهدَته المنازل ألمًا بعد سقوطها , وبدأت حينها أفكر بالهجرة بحثاً عن مراهقتي التي قضيتها وأنا أستمع إلى أجيج النيران التي التهمت موطني سوريا عِوضاً عن ألحانهِ الشامية العتيقة , وجال بخاطري أن أترك معه ذكريات تسعةَ عشر عامًا قضيتها فيه ؛ لأبحث عن مكانٍ أستطيع فيه أن أعيش مراهقتي من جديد .
أعتقد بأنّ جدران المنزل شعرت بوجودي , واعتقد بأن جدران غرفتي شعرت بذلك أيضًا , بل حتى سريري ؛ لأنّني شعرت براحة الاستلقاء عليه بالرغم من أنّني أستلقي على الأنقاض , استسلمت له , فسرقني كعادته وقذفني إلى عالم الأحلام .
كنت واقفةً أشاهد غروب الشمس في الأفق من شرفة منزلٍ خشبيٍ أبيض اللون , نظرت للأسفل فوجدت عجوزًا تتوسد حقيبتها على كرسي خشبيٍ طويلٍ , تأملتها للحظاتٍ , ثم وجهت عينايَ إلى عمود الإنارة الذي كان خلفها مع إضاءة فتيلته , ثم نظرت للعجوز مجددًا فرأيت فراغًا بجانبها على الكرسي استطيع الجلوس فيه , خرجت من المنزل ثم توجهت لذلك الكرسي , وجلست بجانبها بكل هدوءٍ ؛ لكي لا أزعجها , نظرت للمنزل الذي نزلت منه قبل قليل , تأملت الشرفة التي كنت واقفةً خلفها , وهمست قائلةً : هذا الواقع الذي لطالما حلمت به . وفجأةً سمعت صوت صديق طفولتي جمال يقول : ملاك .. ملااك .. ملاااك ..
استيقظت العجوز على صوت جمال وكأنها رأت كابوسًا , وبدأت تتحدث بكلامٍ مبهمٍ لم أجد له معنى .
استيقظت فإذا بجمال أمامي , فجلست ثم نفضت الغبار الذي علق بيدايَ معلنةً اكتفاءي بما عاشيته , وبدأت أحاول بأن أُقنع جمال بالهجرة فلم أستطع , فأجبرته عليها عندما أخبرته كذبًا بأنّي سأهاجر ولو بمفردي ؛ لأنّي كنت واثقةً بأن قلبه لن يسمح له .
تجاوزنا آلاف الأميال بواسطة جميع سبل المواصلات التي عرفتها البشرية باستثناء الطائرات وما بعدها , كانت رحلةً مريرةً جُرح خلالها كبريائنا , وكادت تضيع أن إنسانيتنا في محطاتها , ولكنّها بالرغم من كلّ هذا كانت أرحم من الجحيم الذي تعيشه بلادي سوريا .
وها نحن أخيرًا تحت سماء ليبيا الصافية على إحدى شواطئها , عشية يوم السبت نستعد لعبور البحر الأبيض المتوسط متجهين إلى محطتنا الأخيرة , إلى إحدى جزر ليونان .
توسدّت فخذ جمال متأملةً بأن تسقط جبال الخوف التي استوطنت كتِفَيْ , شعرت بشيءٍ من الراحة , غوتُ دون أن أشعر , فراودني ذات الحلم الذي رأيته في المرة الأولى من غروب الشمس , إلى صوت جمال وهو يقول : ملاك .. ملااك .. ملاااك ..
استيقظت , رفعت رأسي عن فخذه فوقف مسرعًا , أمسك يساري بيمينه ليساعدني على النهوض , وقفت بجانبه فأحكم قبضته عليْ , بدأنا نركض ورمال الشاطئ تتطاير من خلفنا جرّاء خطواتٍ تجهل بأنها تسير نحو قدرين مختلفين , ثم توقفنا بمحاذاة مياه البحر ننتظر وصول القاربان اللذان لاحا لنا في الأفق .
تسللت مياه البحر لليابسة من تحتنا كأنها تتسابق للنجاة من ظلمة أعماقه , وتسابق الناس من حولنا بعد وصول القاربان في دفع كلّ ما يملكونه للابتعاد عن الجحيم بقدر المستطاع , صاح جمال بصوته معلنًا عمّا بحوزتنا , ولكن في كلّ مرةٍ يظهر من يملك ضعف ما لدينا , وعندما أوشك القاربان على الامتلاء صاح جمال مجددًا , فنظر له صاحب القاربان ثم نظر من حوله وقال : هل هناك من سيدفع أكثر ؟
لم يجد لسؤاله جوابًا , فنظر إليّ وإلى جمال وقال : أنتما آخر الركاب , ولكن لسوء الحظ لا يوجد إلّا مكانٌ واحد في كل قارب , أي أنكما ستفترقان .
اعترض جمال على كلام ذلك الرجل , وكاد أن يلغي الصفقة فمنعته عن ذلك وقلت له : إنّ الملاجئ في اليونان تكاد تكون خالية , وها نحن على وشك أن نضع نقطة النهاية لرحلتنا , أرجوك لا تدعنا نفوّت هذه الفرصة , خصوصًا بأننا نعلم بأنّ كل ما سنواجهه سيكون أرحم من العودة لسوريا , حتى الموت ذاته .
اقتنع جمال بما قلته , فأعطى الأموال لصاحبها الجديد , ثم ساعدني على ركوب أحد القاربان , وقبل أن يتوجه للقارب الآخر أخرج عددًا من الأوراق الرسمية من جيبه , وبدأ يقلبها فرأيت الأوراق الخاصة بأفراد عائلته الذين لا يزالون عند الله أحياءً يرزقون , وفي النهاية سلمني الأوراق الخاصة بي وقال : يجب أن تكون أوراقك معك من الآن وصاعدًا , لا أريد أن أبتعد عنك ولو للحظة , ولكن ما باليد حيلة , انتبهِ لنفسك , وفي رعاية الرحمن .
تكفلت دموع عيني بالرد على خطبته القصيرة عندما عجز لساني , فمسحتها ونظرت فيمن حولي , كان القارب متوسط الحجم ويحمل قرابة خمسين شخصًا لا يوجد بينهم موطئٌ لقدم , كان الزحام فوق القارب شديدًا ولكن بالرغم من كلّ هذا انطلق القاربان في نفس اللحظة , ولكن بعد بضع لحظاتٍ أخرى سبقنا قارب جمال حتى أختفى في الأفق خلف ستارة الليل .
انقضت تسع ساعاتٍ على انطلاقنا معلنةً في نهايتها انقضاء نصف الرحلة , تسع ساعاتٍ تكبدت بعدها السماء الصافية بطبقاتٍ من غمامٍ زاد حلكة الليل سوادًا , فهطل المطر منها فسمعنا استهلاله , ثم بدأ يزداد شيئًا فشيئًا حتى تحول صوته للهزيم حدّ التهكم , لم يكتفي البحر باستقبال ضربات المطر والمشاهدة , بل ثارت أمواجه بامتعاضٍ لتضرب ما فوقها , فكان قاربنا هو الضحية فتهشم , سقطنا منه وأصبحنا جزءًا من صراع الطبيعة هذا , بدأت أصرخ خوفًا ولكن مياه البحر المالحة قيدت فمي لأغرق بصمت , فأطلقت سراحه وحاولت الصراخ مجددًا ولكن لا صوت يعلو على صوت المطر , انقطع نفسي , أردت أن أستنشق القليل من الهواء ولكن موجةً قيد الإنشاء سحبتني للأسفل ثم ارتفعت شامخةً وهوَت بكل ذلٍ لتغرقني , فتحت فمي تحت المياه بحثًا عن الهواء من شدّة حاجتي إليه , فخرج ما تبقى منه في صدري على هيئة فقاعة يتيمة تسبح للأعلى , سبحت خلفها كما لو كنت أركض خلف روحي , رأيتها تعانق الهواء عند سطح المياه , لحقت بها , وعند السطح أخذت نفسًا عميقًا أعادها وأعاد معها الحياة إلى صدري .
توقف المطر , هدأت الأمواج وسكنت سَوْرَتُها , افترقت الغيوم , نظر القمر إلينا بكلٍ أسًا وأمدّنا بنوره متأسفًا لما حدث لنا , سمعت تأوُّه الرجال , ونحيب النساء , ونواح الأطفال , نظرت من حولي فوجدت طوق نجاة يسبح وحيدًا رغم حاجة الجميع له , سبحت باتجاهه وأحكمت قبضتي عليه عندما أمسكت به , أو بالأصح عندما أمسك هو بي .
بقيت في حجره حتى شعرت بالوهن في عضلات يداي , بل حتى خارت قواي , نظرت من حولي مجددًا فرأيت أناسًا متعلقين بحيواتهم على بقايا القارب , ورأيت أناسًا يتأرجحون على هوى وإرادة آثار الأمواج وبقاياها , ورأيت القليل منهم يجلسون على قوارب النجاة عوضًا عن البقاء في حجرها , فقررت تقليدهم .
انقضى الوقت فاختفت بعض الأصوات مع اختفاء أرواح أصحابها , انقضى حتى بزغ نور الفجر وأنقذ من تبقى منّا من ظلمتَيْ الليل والبحر , انقضى حتى أشرقت الشمس لتعلن بقاء قرابة عشرين شخصًا على قيد الحياة , ولترينا الجثث التي كانت تسبح حولنا , كان منظرًا وحشيًا , وعلى الرغم من هذا فقد كان أرحم من وحشة الليل .
انقضت الثواني ، فتلتها الدقائق والساعات , حتى أصبحت الشمس فوقنا تمامًا , فخلقت هذه الظروف في داخلي شخصيةً مكبلةً بالأفكار السوداوية , وخانقةً بذلك أحلام المنام وأحلام اليقظة التي أردت تحقيقها , كنت أفكّر في جمال الذي يفترض بأن قاربه قد رسا على الشواطئ اليونانية في مثل هذا الوقت , وفي ما الذي سيفعله بعد مماتي , فأنا من أجبرته على الهجرة معي , وأنا من قد أتركه يحارب الغربة وحيدًا , أردت أن أفكر فيما هو أسوء من ذلك , ولكنّ حرارة الشمس وصلت لذروتها , فتبخرت كل الأفكار من رأسي , أصبت بالجفاف , وازدادت درجة حرارة مياه البحر الذي ترسبت أملاحه على جلدي لتضاعف شعوري الحُرقة , وازداد عدد الجثث جرّاء الهجير .
بدأت الشمس في النزول من قبة السماء حتى حان وقت الأفول , وفي لحظاته الأخيرة جاءتني امرأة تسبح وطفلها معلقٌ على ظهرها , سلّمتْنِي طفلها وقالت : اسمه ربيع , وهو في الرابعة من عمره , وأنا لا أستطيع أن أتحمل أكثر من هذا , أرجوكِ تولّي أمره .
وضعْتُه في حجري , ثم وضعْتُ يميني على عينيْه لكي لا يشاهد أمه وهي تغرق أمامه بالرغم من فقدانه لوعيه , جرفت الأمواج جثة والدته , فبلّلْتُ وجهه بمياه البحر المالحة لعله يستيقظ ويقاتل معي ومع من تبقى من حولي , ولكن بلا فائدة .
انقضت الساعات بعد ذلك فعادت ظلمة الليل وعدنا لكمّاشة الظلمتين , انقضت الساعات حتى جاءت الساعة الباردة قَرْسًا بعد منتصف الليل , فعادت الأمواج في هذه الساعة لصراعها الأزليّ الذي لن ينتهي حتى وإن زالت البشرية , انقضت الساعات حتى انقضت معها تلك الليلة على هذا المنوال معلنةً انقضاء يومٍ كامل على تهشم قاربنا .
بدأت الشمس تصعد على سُلّمِ السماء , وقبل أن تصل للقمة ببضع ساعات أدركت بأنّ روح ربيع عرجت للسماء متجاوزةً الشمس وتاركةً جسده خاويًا في حجري , أردت أن أرمي جسده في البحر لأتخلص من حمله , ولأخفف من روعة قلبي الذي أبى بأن يجعل جسده البريء طعمًا لما في الأعماق .
شعرت باقتراب نهايتي , ونظرت من حولي للمرة الأخيرة فلم أجد أحدًا ؛ لأنّ الأمواج تكفلت بنأي من بقيَ على قيد الحياة من حولي , استَسلمت جوارحي فارتخت معها لهفة النجاة من كل ليفٍ في كلّ جزءٍ من عضلاتي , فاختلج قلبي ثم بدأ يخفق بنبرة متخاذلة , ثم ارتعد عندما لاحت لعيني سفينة في الأفق تشق البحر نحوي , حاولت أن أجذب انتباه ركابها ولكن يدايَ أبت بأن تشير لهم , وأبت كذلك حبال صوتي بأن تستنجد بهم , فسقطت جفون عيني لتخذلني هي الأخرى .
فتحت عيني للحظة واسترقت النظر فرأيت عشراتٍ من الناس من حولي , وبعد مقدار رمشة بتوقيت الإنهاك وجدت نفسي على سريرٍ صغيرٍ في مؤخرة مروحية يتعالى هديرها , وبعد رمشةٍ أخرى بذات التوقيت وجدت أناسًا من حولي يسعون بي على ذات السرير في شارعٍ ما , سقط رأسي على خده الأيمن , فاسترقت عينايَ النظر لمن ههم حولي , فرأيت جمال يسير مبتعدًا بعكس اتجاه سعي الناس بي , فخذلتني جفوني مرةً أخرى وسقطت قبل أن تتأكدّ عينايَ مما رأته .
لا أدري كم انقضى من الوقت , ولكنه انقضى بالمقدار الذي يحتاجه جسدي ليستعيد جزءًا من صحته . وجدت نفسي على سريرٍ أبيض يحيطه صفير الأجهزة وتحيطه الستائر , و وجدت أنابيبًا تتصل بجسدي من طرفٍ , وتتصل بقوارير تتأرجح فوق رأسي من الطرف الآخر , حاولت أن استعيد الأحداث الأخيرة التي حُفِظَتْ في ذاكرتي كصورٍ مشوَّشة بلا ملامح , بدأت أقلبها بالرغم من هذا , فشعرت بأنّي رأيت جمال , أغمضت عينايَ بشدّةٍ لعل الصورة تتضح قليلًا , ولكنّ صوت انسدال الستارة الأمامية جعلني أفتح عينايَ مجددًا . رأيت ممرضةً بدأت تتحدث إليَّ فور دخولها بنبرة مبتسمة وبلغةٍ لا افهمها , وبعد ثوانٍ معدودة تغيرت نبرتها إلى نبرةٍ جادةٍ لا تبشر بالخير .
لم أفهم شيئًا مما قالته فأخبرَتْها ملامحي بذلك , فأسدلت الممرضة الستارة الجانبية , فرأيت امرأةً بهيئةٍ سورية على السرير الذي بجانبي , قامت الممرضة بتوجيه الكلام الذي حدثتني به لتلك المرأة , فترجمته تلك المرأة قائلةً : إنها تتحمد لكٍ على السلامة , وتقول لكِ يجب أن تغادري هذا المشفى اليوم بالرغم من أنّ فترة نقاهتك لم تنتهي , ولكن المشفى لا يستطيع إبقاءك لأنك لا تحملين أوراقًا تثبت شخصيتك .
ثم نَظَرَتْ للمرضة وأومأت لها برأسها بأن الترجمة قد تمت , ثم قالت : حمدًا لله على سلامتك , اسمي هدى , ما اسمكِ ؟
فأجبتها : أنا ملاك , لكن أخبريني أين أنا ؟
فقالت : إطمئني , أنتِ في المشفى العام لمدينة أييا غاليني في اليونان. ثم سألتني قائلةً ما الذي حدث معك ؟ وهل تريدين الاتصال على أحد ؟
فأخبرتها بما جرى لي منذ مغادرة شواطئ ليبيا حتى هذه اللحظة فقالت ودموعها تشق مجراها على خديْها : الحمد لله رب الظلمات الذي أنقذك منها , عزيزتي لا تندمي على هجرتك بسبب ما حصل , لأنّ البحر في النهاية كان أرحم وأرأف من طغيان قوات النظام , عزيزتي إنّ بقاءك ليومٍ كامل فيه من غير زادٍ أرحم من بقاءك لأسبوع أو أكثر محاصرةً ومن غير زاد .
فقلت لها : ونعم بالله . وبعد لحظةٍ أكلمت قائلةً : لم تخبريني بقصتك ؟
فقالت : هاجرت من سوريا ووصلت إلى هذه المدينة مع أبي وأمي وأخي الصغير قبل ثلاثة أعوام , وقبل يومان تعرضت لحادث دهسٍ عندما كنت أقطع أحد الشوارع مع أخي , وأصبت في رأسي , هذا كلّ ما أذكره , وها أنا اليوم أستعد للخروج والعودة للمنزل , بالمناسبة بما أنك ستغادرين المشفى اليوم مثلي لما لا تأتين معي للمنزل ؟
أجبتها : لا , أُقَدّر لكِ هذا , سأبحث عن صديقي أولًا , ثم سأبحث عن الملاجئ التي أعدتها الحكومة اليونانية فربما أجده ينتظرني هناك .
في هذه اللحظة جاءت الممرضة وقامت بنزع كل الأنابيب التي كانت معلقةً بجسدي , ثم وضعت اللباس الذي كنت أرتديه خلال رحلتي على طرف السرير بعد أن قامت بتنظيفه , ثم قامت بذات الأمر مع هدى , وبعد أن أصبحنا جاهزتان للمغادرة قالت لي هدى : ستأتين معي للمنزل فأنت ما زلتي تحتاجين لبعض الراحة , وعندما تستعيدين كامل قواك قومي بما تريدين .
لم أجد سببًا يجعلني أرفض عرضها للمرة الثانية , فأنا فعلًا أحتاج للراحة ؛ لأنّني لو بدأت أبحث عن جمال وأنا بهذه الحالة فسينتهي بيَ المطاف مرميةً على أحد الأرصفة . وافقت على عرضها , وغادرت من المشفى برفقتها , وعند بوابة المشفى ركبنا سيارة أجرة ؛ لأنها لم تشأ أن تزعج والدها وهو في عمله كما سبق وأن أخبرتني .
كانت أجوبة هدى على أسئلتي خلال طريق العودة لمنزلها كفيلةً بأن تعيد معايرة ساعتي البيولوجية , فهي من أخبرتني أنّ الساعة الآن تشير للرابعة عصرًا , وهي من أخبرتني بالتاريخ الذي استطعت أن استنتج من خلاله أنّ يومان فقط انقضت , منذ أن تم انقاذي بواسطة أولئك البحارة .
وصلنا بعد ذلك للمنزل , فاستقبلتنا والدتها استقبالًا حارًا فور دخولنا , عرّفتها بنفسي , وتبادلنا بعد ذلك أطراف الحديث بعدما اتصلت أم هدى بزوجها لتتطلب منه شراء شيءٍ للعشاء بعد أن أخبرته بوجود ضيفٍ اليوم , احمرت وجنتايَ خجلًا فحدثتها قائلةً : أرجوكم لا تتبعوا أنفسكم , لا داعي لكل هذا .
فقالت أم هدى : زوجي سيذهب للمشفى لإنهاء بعض الإجراءات المتعلقة بحادث هدى بعد انتهاء عمله , وذلك الشارع مليء بالمطاعم , لذا فلا تعب في ذلك .
انقضى الوقت حتى جاء وقت الزوال , وفي تلك اللحظة أخذتني هدى لغرفةٍ كانت في الطابق الثاني من المنزل وقالت : خذي قسطًا من الراحة , إذا حان موعد العشاء سأخبرك .
دخلت الغرفة فرأيت شرفةً في نهايتها , ذهبت لها , فوجدت نفسي واقفةً أشاهد غروب الشمس في الأفق من شرفة منزلٍ خشبيٍ أبيض اللون , نظرت للأسفل فوجدت عجوزًا تتوسد حقيبتها على كرسي خشبيٍ طويلٍ , تأملتها للحظاتٍ , ثم وجهت عينايَ إلى عمود الإنارة الذي كان خلفها مع إضاءة فتيلته , ثم نظرت للعجوز مجددًا فرأيت فراغًا بجانبها على الكرسي استطيع الجلوس فيه , خرجت من المنزل ثم توجهت لذلك الكرسي , وجلست بجانبها بكل هدوءٍ ؛ لكي لا أزعجها , نظرت للمنزل الذي نزلت منه قبل قليل , تأملت الشرفة التي كنت واقفةً خلفها , وهمست قائلةً : هذا الواقع الذي لطالما حلمت به . وفجأةً سمعت صوت صديق طفولتي جمال يقول : ملاك .. ملااك .. ملاااك ..
فاستيقظت العجوز على صوت جمال وكأنها رأت كابوسًا , فنظرت من حولي , رأيت جمال يركض باتجاهي , سبقني قلبي إليه , فلحقت به وقفزت إلى صدره , سألته ودموعي تنهمر كسيلٍ جارف : كيف وجدتني ؟
فأجاب : قبل يومان تعرضت ابنة الرجل الذي يقف خلفي لحادث دهس عندما كانت تقطع أحد الشوارع برفقة أخيها , فنزل سائق السيارة ليطمئن عليها , ثم رحل عندما رأى هيئتها السورية .
رفضت المستشفيات احتوائها لأنها لم تكن تحمل أوراقها الرسمية , فأدخلتها للمشفى العام بأوراق والدتي , واليوم عدت للمشفى عندما ترجم إليَ أحد الأشخاص الخبر الذي حملته إحدى الصحف اليونانية قبل يومان , والذي يفيد بأن المشفى العام استقبل الناجين من قارب الموت , وحينما عدت للمشفى وقبل أن أدخل إليه , تعرّف أخو الفتاة التي أنقذتها عليْ , واخبر والده الذي منعني من الدخول للمشفى كوني مطلوبًا أمنيًا فيه ؛ لأنّني أدخلت إليه مريضًا بصفةٍ غير شرعية , فأخبرته بأمرك ودخل يسأل عنك عوضًا عنّي , فقالوا له بأنكِ غادرت منذ ساعات .
كنت أريد أن أبحث عنك وأن أتجه للملاجئ التي أعدتها الحكومة اليونانية , ولكنه أصرَّ على أن أرتاح في منزله لمّا علم بأنّني لم أتوسد إلّا الأرصفة وبأنّني لم آكل شيءً يسد الجوع منذ لحظة وصولي .
كانت العجوز لا تزال مرعوبةً منذ أن استيقظت , ذهبت إليها وسألتها بمقلتي هل أنتِ بخير ؟
فقالت بلغة السلام التي يجب أن تفهمها سائر البشرية : بينما كنت جالسةً على أنقاض منزلنا , رأيت جدارًا انحنى وارتكز على الحطام بعد أن أتعبه الوقوف , فاستظليت تحته أنا وأفراد عائلتي الذين لا يزالون عند الله أحياءً يرزقون , وتوسدّتُ حجرًا كان يحمل سقف منزلنا و وضعت عليه رأساً مُثقلاً بالهموم , وتلحفت الغبار الذي تنهدَته المنازل ألمًا بعد سقوطها , وبدأت حينها أفكر بالهجرة بحثاً عن مراهقتي التي قضيتها وأنا أستمع إلى أجيج النيران التي التهمت موطني سوريا عِوضاً عن ألحانهِ الشامية العتيقة , وجال بخاطري أن أترك معه ذكريات تسعةَ عشر عامًا قضيتها فيه ؛ لأبحث عن مكانٍ أستطيع فيه أن أعيش مراهقتي من جديد .