ســـعـيد مصــبـح الغــافــري
29-07-2017, 10:38 PM
شــارع بـنـت اليـاسـمـيـن !!
http://up.omaniaa.co/do.php?img=11667 (http://up.omaniaa.co/)
أنا من البلاد التي لا تحمل شوارعها أية أسماء أو أرقام .. وحدنا - أيام كنا مراهقين نجري وراء الحسناوات - كنا نخترع من عندنا أسماء شوارعنا الرومانسية التي نهوى التسكع فيها . في القرى والبلدات الريفية الواسعة كانت غالبية أسماء الدروب والشوارع فيها مرتبطة بشيء معين لصيق بالمكان نفسه أو بما حدث أو يحدث فيه .. فمثلا نحن الشباب كنا فيما بيننا نطلق على شوارع معينة في حارات معينة نعرفها أسماء خاصة ، ذات صلة بعواطفنا أو قصصنا العاطفية فيها ؛ كشارع الحب .. شارع القمرات الثلاث .. شارع بنت الياسمين وغيرها .. كان كل عاشق يرسل سرا من يخبر حبيبته عندما يتفقان على لقاء بأن تلاقيه في شارع الحب عند آخر دكان مكتوب على جداره بخط مرتعش ( أمر على الديار ديار ليلى ) أو قبل اللفة التي تدخلك مباشرة في شارع القمرات الثلاث أو عند مدخل شارع بنت الياسمين .. وقتها كانت أشعار نزار وفاروق جويدة ودرويش وأغاني فيروز وحليم في طور الظهور على جدران العشاق كما يحلو لي أن أسميها .
وبالنظر الى واقع حال شوارع قريتنا ذات الفقر المدقع أصلا ما كان هناك فيها أي شارع بالمعنى العصري لكلمة ( شارع ) حيث أسفلت ورصيف وإنارة وكراسي استراحة ومحلات ومطاعم وسيارات ومارة بثياب راقية ونساء جميلات مشرقات نظيفات الأحذية وزهور ونوافير مياه بديعة ومسطحات عشبية خضراء ولافتة عليها اسم الشارع أو السكة مع الرقم كما هو الحال في المدن الراقية جدا .. ما كانت هذه الصورة المتمدنة موجودة وإنما الموجود سكة ترابية قديمة بائسة مغبرة مليئة بالحفر وبآثار الأقدام الحافية الآتية بوحلها من المزارع وروث الدواب العابرة وعلب الشراب الفارغة وخاصة علبة شراب سنتوب التي كنا نصادفها متمددة في وسط السكة وهي بكامل انتفاخها فنفرح بذلك وكأننا عثرنا على لعبة مدهشة نساها طفل من أطفال الحارة هناك فنهجم عليها رافعين قدما في الهواء ثم انقضاضة حماسية على ظهر العلبة فتنفجر محدثة فرقعة أشبه بطلقة سكتون .. تملأ الحارة بصوتها فتطل بعض الرؤوس المتفاجئة من النوافذ والأبواب المعدنية الصدئة التي تطاير صبغها وعلاها الغبار وأصبح لها عند فتحها أو غلقها صرير خاص يشبه أنين شخص يتألم .. هذا هو كل شارع الحب أو شارع القمرات الثلاث أو بنت الياسمين الذي كان يتواعد فيه العشاق مع عشيقاتهم و ( الموعد الغرامي ) هذا محدد مسبقا باليوم والساعة والدقيقة والمكان ولا يدوم في ذلك الشارع أكثر من دقائق قصيرة سريعة جدا تعاش بذهن مشوش ومشاعر مقتضبة خائفة قلقة يمضيها الطرفان وقوفا وعلى عجالة بل إن الحبيبة تطلب في توسل وإصرار وهي تتلفت مذعورة أن يذهب حبيبها فورا ويترك المكان حتى لا يشك فيه أو ينتبه إليه أحد الجيران فيمتثل المسكين مكرها ويمضي بسرعة حتى لا يفتضح اللقاء من قبل عذول مار أو واش حاقد مشاء بنميم وفي جو ؛ الاثنان فيه يترقبان خائفين وخاصة هي وقد غامرت بحياتها وسرقت من أجله نفسها والتقته عند النافذة أو خرجت من البيت للقائه تحت غطاء جلب كراس واجب المدرسة من عند جارتها وصديقتها سميحة وسميحة بريئة هي ودفترها ولكنه التواطؤ البريء في زمن الكبت والحصار ولاءات الممنوع .. ماذا تفعل ؟! الوضع البيتي صارم جدا وصعب و لابد من تغطية مناسبة ومحسوبة بألف حسبة وحساب وإلا سيكون يومها أغبرا ولن يرحمها أحد عندما يشد شعرها أو تصيح العصا في ظهرها إذا انكشفت المسألة ناهيك عن أن حبيبها نفسه لن يسلم من إخوة حبيبته ( الشريين ) ولا من أبناء عمومتها المتعصبين للشرف الرفيع ومفردات الدم والعرض وبقية القاموس البدوي المسيطر على عقلية الرجل الشرقي .
http://up.omaniaa.co/do.php?img=11668 (http://up.omaniaa.co/)
كل ذلك ؛ كان صرحا من زمان فهوى .. أما اليوم فقد أصبح الحب متاحا وأكثر حرية وانفساحا بفضل وسائل التواصل العصرية التي سهلت أمور العشاق في القرى التي ما تزال تؤمن بالبيت وبالجدران الأربعة المحصنة بالشوارب المنفوخة وبالأعين الحمراء وكتاب الممنوعات المقدس .. كل هذا إنتهى يا حبيبي .. فألف رحمة ونور على كل سكة حب ضمت يوما حبيبين وحكايات وأسرار . ألف رحمة ونور على زمن الحب البريء والعشق البريء والقلوب التي كانت مليئة بالنقاء وبالكثير من الطفولة والبراءة والصدق والوفاء .. سلامي عليك يا دروب الحنين .. سلامي على حب خربشته الأصابع بذاك الجدار .. سلامي لكل الوراء الجميل الذي عشت فيه .. سلامي لأول تأتأة من فمي سقطت سكرا أمام حبيبة .. سلامي لكل الدروب التي قد عشقت وعشت .
بقلمي / سعيد مصبح الغافري
______________________
http://up.omaniaa.co/do.php?img=11667 (http://up.omaniaa.co/)
أنا من البلاد التي لا تحمل شوارعها أية أسماء أو أرقام .. وحدنا - أيام كنا مراهقين نجري وراء الحسناوات - كنا نخترع من عندنا أسماء شوارعنا الرومانسية التي نهوى التسكع فيها . في القرى والبلدات الريفية الواسعة كانت غالبية أسماء الدروب والشوارع فيها مرتبطة بشيء معين لصيق بالمكان نفسه أو بما حدث أو يحدث فيه .. فمثلا نحن الشباب كنا فيما بيننا نطلق على شوارع معينة في حارات معينة نعرفها أسماء خاصة ، ذات صلة بعواطفنا أو قصصنا العاطفية فيها ؛ كشارع الحب .. شارع القمرات الثلاث .. شارع بنت الياسمين وغيرها .. كان كل عاشق يرسل سرا من يخبر حبيبته عندما يتفقان على لقاء بأن تلاقيه في شارع الحب عند آخر دكان مكتوب على جداره بخط مرتعش ( أمر على الديار ديار ليلى ) أو قبل اللفة التي تدخلك مباشرة في شارع القمرات الثلاث أو عند مدخل شارع بنت الياسمين .. وقتها كانت أشعار نزار وفاروق جويدة ودرويش وأغاني فيروز وحليم في طور الظهور على جدران العشاق كما يحلو لي أن أسميها .
وبالنظر الى واقع حال شوارع قريتنا ذات الفقر المدقع أصلا ما كان هناك فيها أي شارع بالمعنى العصري لكلمة ( شارع ) حيث أسفلت ورصيف وإنارة وكراسي استراحة ومحلات ومطاعم وسيارات ومارة بثياب راقية ونساء جميلات مشرقات نظيفات الأحذية وزهور ونوافير مياه بديعة ومسطحات عشبية خضراء ولافتة عليها اسم الشارع أو السكة مع الرقم كما هو الحال في المدن الراقية جدا .. ما كانت هذه الصورة المتمدنة موجودة وإنما الموجود سكة ترابية قديمة بائسة مغبرة مليئة بالحفر وبآثار الأقدام الحافية الآتية بوحلها من المزارع وروث الدواب العابرة وعلب الشراب الفارغة وخاصة علبة شراب سنتوب التي كنا نصادفها متمددة في وسط السكة وهي بكامل انتفاخها فنفرح بذلك وكأننا عثرنا على لعبة مدهشة نساها طفل من أطفال الحارة هناك فنهجم عليها رافعين قدما في الهواء ثم انقضاضة حماسية على ظهر العلبة فتنفجر محدثة فرقعة أشبه بطلقة سكتون .. تملأ الحارة بصوتها فتطل بعض الرؤوس المتفاجئة من النوافذ والأبواب المعدنية الصدئة التي تطاير صبغها وعلاها الغبار وأصبح لها عند فتحها أو غلقها صرير خاص يشبه أنين شخص يتألم .. هذا هو كل شارع الحب أو شارع القمرات الثلاث أو بنت الياسمين الذي كان يتواعد فيه العشاق مع عشيقاتهم و ( الموعد الغرامي ) هذا محدد مسبقا باليوم والساعة والدقيقة والمكان ولا يدوم في ذلك الشارع أكثر من دقائق قصيرة سريعة جدا تعاش بذهن مشوش ومشاعر مقتضبة خائفة قلقة يمضيها الطرفان وقوفا وعلى عجالة بل إن الحبيبة تطلب في توسل وإصرار وهي تتلفت مذعورة أن يذهب حبيبها فورا ويترك المكان حتى لا يشك فيه أو ينتبه إليه أحد الجيران فيمتثل المسكين مكرها ويمضي بسرعة حتى لا يفتضح اللقاء من قبل عذول مار أو واش حاقد مشاء بنميم وفي جو ؛ الاثنان فيه يترقبان خائفين وخاصة هي وقد غامرت بحياتها وسرقت من أجله نفسها والتقته عند النافذة أو خرجت من البيت للقائه تحت غطاء جلب كراس واجب المدرسة من عند جارتها وصديقتها سميحة وسميحة بريئة هي ودفترها ولكنه التواطؤ البريء في زمن الكبت والحصار ولاءات الممنوع .. ماذا تفعل ؟! الوضع البيتي صارم جدا وصعب و لابد من تغطية مناسبة ومحسوبة بألف حسبة وحساب وإلا سيكون يومها أغبرا ولن يرحمها أحد عندما يشد شعرها أو تصيح العصا في ظهرها إذا انكشفت المسألة ناهيك عن أن حبيبها نفسه لن يسلم من إخوة حبيبته ( الشريين ) ولا من أبناء عمومتها المتعصبين للشرف الرفيع ومفردات الدم والعرض وبقية القاموس البدوي المسيطر على عقلية الرجل الشرقي .
http://up.omaniaa.co/do.php?img=11668 (http://up.omaniaa.co/)
كل ذلك ؛ كان صرحا من زمان فهوى .. أما اليوم فقد أصبح الحب متاحا وأكثر حرية وانفساحا بفضل وسائل التواصل العصرية التي سهلت أمور العشاق في القرى التي ما تزال تؤمن بالبيت وبالجدران الأربعة المحصنة بالشوارب المنفوخة وبالأعين الحمراء وكتاب الممنوعات المقدس .. كل هذا إنتهى يا حبيبي .. فألف رحمة ونور على كل سكة حب ضمت يوما حبيبين وحكايات وأسرار . ألف رحمة ونور على زمن الحب البريء والعشق البريء والقلوب التي كانت مليئة بالنقاء وبالكثير من الطفولة والبراءة والصدق والوفاء .. سلامي عليك يا دروب الحنين .. سلامي على حب خربشته الأصابع بذاك الجدار .. سلامي لكل الوراء الجميل الذي عشت فيه .. سلامي لأول تأتأة من فمي سقطت سكرا أمام حبيبة .. سلامي لكل الدروب التي قد عشقت وعشت .
بقلمي / سعيد مصبح الغافري
______________________