من عنق الزجاجة توُلد أماني جديدة لعاملٍ بنجالي مكث 24 سنة في عمان!
هناك في احدى قُرى عبري الكثيرة، المتناثرة على امتداد جبالها وأوديتها وسهولها وصحاريها، على مسافة 60 كم من مركز المدينة، تقبع قرية "الرحبة"
هناك و في احضانها عاش "ابو القاسم" بنجالي الجنسية، الوافد الذي قدم إليها لطلب الرزق وليعمل في مجال الزراعة،حاله كحال بقية العمالة الوافدة من الجنسية البنجالية.
ابتدأ مشواره قبل 24 سنة ، كعامل زراعي، أحب القرية فأحبه اهلها، اصبح كأحد سكانها،يحضر مناسباتهم ويجلس مجالسهم ويزور المريض من كبار السن ولا يتوانى ولو للحظة في ان يمد يد المساعدة. ذات يوم وبعد مُضي بضعِ سنين من مكوثه جاءته الاخبار السيئة من أحد اصدقائه البنجاليين، خبرٌ نزل كالصاعقة على المدعو"ابو القاسم"، خبرٌ مفاده تعرض قريته للطوفان وغرق بيته ومن فيه بالكامل(ابوه-امه-زوجته-أولاده)، ظل يتصل بهم ويتصل حتى أعياه الصوت الذي يقول "تعذر الوصول الى الرقم المطلوب، الرجاء معاودة الاتصال فيما بعد" كلماتٌ قتلت فكرهُ وهاجسه بالكامل، اثاقلت خطاويه، وفقد الأمل في أن يرى من تركهم خلفه ووعدهم بالرجوع اليهم حاملاً أمانيهم، ومستقبلاً يُؤمن معيشتهم!
كرِه كل شيءٍ يعود بصلةٍ لبلاده، كره اسم بنجلاديش، قُرى بنجلاديش، اخبار بنجلاديش، وبنجلاديش كل بنجلاديش!
كان يثور غضباً عندما يسأله احدهم عن بلاده! او من هم أهله! او سبب هذا الحقد الدفين! ليجيبك قائلا بغضب : "انته مو يريد؟"
كنت أعود الى المنزل من "الرمسة عند الشباب" في ايام العطلة الصيفية عند ساعات الفجر الأولى، وأرى "ابو القاسم" لا زال مستيقظاً على جنباتِ الشارع ،يحرق رئتيه بسيجارةٍ يتصاعد دخانها لأعلى، إما لترسم له طريقاً للسماء يرى به مستقبلاً قد دُفن قبل ولادته فعلياً، وإما لترسم ماضٍ تليد يرى فيه كيانه الذي ذهب ادراج الرياح. يتغلغل الدخان في احشاء صدره على مهل، ليسعل بعدها سعالُ مرضٍ وألم!
توالت الليالي والأيام ليكمل في قرية الرحبة 24 عاماً، دون أن يعود ليومٍ واحدٍ الى بنجلاديش خلالها، و بدون ان يسمع عن أخبارهم مجرد حرف. استسلم للأمر الواقع وقرر أن يرضخ له و أن يمكثَ بقية حياته هنا،حيث حطت خطاويه للوهلة الأولى.
وهناكَ على أحد جنبات الرحبة، تُوجدُ مدرستها التي سُمِّيت باسمها. يُشرفُ على نظافتها مقاولٌ عماني من سكان "ولاية الخابورة" ، و ذات يوم عندما قدِم جالباً الادوات الصحية للنظافة وليشرف على مجريات سير العمل هناك! سمع عن قصة "ابو القاسم" المؤلمة الى حدٍ ما، جعلته يفصح عنها هناك في الخابورة، ليسمع عنها احد عماله من الجنسية البنجالية ذو البضع والعشرينَ ربيعاً! الذي تصرف بغرابة ما ان سمع بها، وطلب من "اربابه" أن يسمح له بالذهاب للعمل الى مدرسة الرحبة، ليوافق بعدها المقاول العماني، ويخوله ليباشر العمل فوراً!
القصة يخبرنا "ابو الكلام" بنجالي الجنسية،يرادف "ابو القاسم" سناً:
يقول جاء هذا الشاب البنجالي ليعمل بالمدرسة، فوراً سألنا عن "ابو القاسم" فأخبرناه اين يجده! ذهب اليه وكانت الصاعقة! رأى في وجه ابو القاسم ملامحَ وجه "خاله" القاطن ببنجلاديش، فاستلطفه حديثاً وكلاماً ليسأله بعدها من أي مدن بنجلاديش انت؟ ومن هم اهلك؟
ليستشيط "ابو القاسم" غضباً وينهال بالشتائم عليه ويغادر المكان!
في صباح اليوم الثاني، جاء هذا الشاب البنجالي واعتذر اليه ! وعلى غفلةٍ منه التقط له صورة، ارسلها بـ"الواتسب" مباشرةً الى بنجلاديش!
خرّ الجميعُ مصعوقاً هناك ! ابناؤه بدأوا بالنحيب وزرجته بدأت بالصياح "زوجي على قيد الحياة" ، امه "ابني! ابني!" فاجعةُ فرح، دموع استبشار، واختلاط مشاعر! يا الله!!!
أكدوا له انه هو! هذا ابني(امه تقول)! هذا زوجي(تقول زوجته) هذا اخي (اخوانه يرددون)،
بعدها وضع الهاتف في جيبه! واسترسل بالحديث معه بثقة!
هل تعرف فلان ؟ وفلان؟ وفلان؟ (اخوته)
ابو القاسم في ذهول
هل تعرف فلان وفلان وفلانة (ابناؤه) ،
وابو القاسم في ذهول
هل تعرف فلانه (زوجته)؟ وفلانه(امه)؟
ابو القاسم يكاد ان يجن جنونه! يا الله ما هذا!!
التقط انفاسه واستجمع قواه وقال له من انت؟ رد عليه انا ابن اختك فلانه! وُلدت بعد سفرك الى هنا! واردف قائلاً: الكل انصدم بعدما اخذت لك صورة على غفلة وارسلتها الى هناك!
ابو القاسم: من الذي انصدم؟ هه (ضحكة يأس وألم) الكل قد ولّى ومات!
وكانت الصدمة التي نزلت كصاعقةِ ذهولٍ وفرح، وخليطٍ من خيالٍ وحقيقة أن كل أهله على قيد الحياة سوى ان أباه وافته المنية لكبرِ سن، و أن ابنه "منير" الذي تركه وهو ذو الثلاثة اشهرٍ في بطن امه قد غدى شاباً يعمل عند اخته "الوسطى" التي تملك تجارتها الخاصة وخيرها الكثير! وان ابنه الأكبر في لبنان يعمل هناك! وووو الكثير من الأخبار والأحداث والمفاجآت !
يا الٰهي "هل انا في علم ام في حلم!" يا الله ان كان حلماً فاسألك ان لا استيقظ ابداً منه الى يوم الميعاد، وان كان حقيقة فمن غيرك اللطيف بعباده والقادر! فاجعل لقائي بهم عاجلاً لا آجل.
طلب من ابن اخته ذاك ان يتصل بأبنائه وزوجته الذين تهللوا بصوته وتكفلوا بمصاريف سفره اليوم قبل الغد!
زوجته التي تركها شابة انهالت عليه بالعتاب واللوم! 24 سنة من دونك، أصارع قسوة الزمن ومطبات الحياة لوحدي! مات ابوك فجردنا اخوتك من الورث كله! وتناهشوا حقوقنا واخذوا أرضنا قسراً! 24 سنة وانا المُعيل الوحيد لأبنائك الخمسة (ولدان و3 بنات)! كبروا بين احضاني وترعرعوا بتضحياتي ومعاناتي لوحدي! أُستنزفت كل طاقاتي لكي اراهم يكبرون حولي دون ان يشعروا بفقد الأب! ولأن الله لطيفٌ بعباده ،لم ينسني قط، كبر الاولاد وانهالت علينا الخيرات وتيسر الحال والمعيشة، ولنا من الرزق الحلال ما يجعلنا سعداء! عُد يا "ابا القاسم" فالرزق كثير وابنتك الوسطى قد تعهدت ان تجعلك المسؤول الأول عن تجارتها والعقل المدبر الذي يدير حلالها.
ابو القاسم يعيش حالياً فترة انتقالية، وبالرغم من انهم ارادوه ان يعود ارض الوطن "بنجلاديش" بنفس اللحظة وبمصروفهم الا انه لا يزال في عمان؟ بانتظار ان تصدر وثائقه الرسمية التي تخوله للسفر الى بلاده، وثائقٌ قد تتأخر بعض الشيء لحين اصدارها كون ابو القاسم أهملها وأضاعها ظناً منه انه سيسطر ما بقى من حياته في "الرحبة" وهو الآن بانتظارأان يطلع عليه فجرٌ جديد، وان تشرق عليه شمس نهارٍ جديدة ليولد للحياة مرة ثانية، وليعيش عالم آخر شُبّه له انه كان مستحيلا!
استوقفني الاسبوع الفائت قائلاً : "الحمدلله انا في حُصّل اولاد مناك بنجلاديش، كله نفرات حي، اولاد مشان اختي يجي مني وهو في خبر انا" هكذا من عنق الزجاجة تولد حياة أخرى مختلفة.
يا صاحب الهم ان الهم منفرج
ابشر بخــــــير فإن الفارج الله
اليأس يقطع احياناً بصـــاحبه
لا تيأسن فإن الكافـــــــــي الله
الله يحدث بـــعد العسر ميسرة
لا تجزعن فإن الصـــــــانع الله
اذا ابتليت فـــثق بالله وارض به
ان الذي يكـشف البلوى هو الله
والله مالك غـــــــــير الله من احد
فحسبك في كـــــــــــــــلٍ لك الله
كتبها : اسعد خلفان المعمري
@asaaad1994
11/نوفمبر/2016
منقوووووله.
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نوارة الكون
!