إنـَّـا للشِّـعـرِ !!
هجمت عـلـيَّ قصيدة من القصائد فجأة وبدون سابق إنذار . لم يتم أمر هذا الهجوم الضاري في البيت كما هي عادة بعض القصائد أحيانا معي عندما أكون في عز نومي أو مضطجعا على سريري . ولا كان عند طاولة حرائقي وجنون ما أكتب . ولا وأنا جالس على كرسي الإسترخاء الهزاز بجوار النافذة أتكلم مع الورود والعصافير واليمام البري و أتأمل شفق الأفق البرتقالي المشخبط ببعض أهداب الغيوم الرقيقة . أو وأنا أنصت مستمتعا للأغاني العذبة الشجية المنسابة مثل شلال ناعم من نافذة بيت جارتنا التي لا تحب سلطنة مزاجها إلا على أغاني الزمن الجميل والفن الذي يلامس أدق أدق مشاعرك . يعني من حسن حظي أنها طلعت من نفس ذوقي تقريبا . ولا كذلك حين أكون عند البحر أو في أحضان الطبيعة أو فوق جبل أو في مكتبي بالعمل .
حصل الهجوم في مكان آخر ، لا جدران ولا نوافذ فيه ولا كراس ولا استرخاء ولا يحزنون .
ورغم معرفتي ويقيني بأن لا وقت ولا مكان محدد لمجيء القصيدة ، وأنها ابنة مزاجها ؛ إلا أنها هذه المرة تملعنت عـلـيَّ واختارت أحرج وقت وألعن مكان للهجوم . الشارع العام السريع . يا للهول !! كيف أرد عني الآن هجمة هذا الشيطان وأنا وسط هذا الأوتوستراد المميت ؟!
الشِّعر يهاجمني ويلاحقني بلا تراجع مثل دبابير مجنونة خرجت من عشها هائجة شرسة ولديها تعطش مسعور للسع واللدغ والعض وكل ما يمكن أن تتصوروه في عالم الإفتراس .
بدأ عقلي يتشوش . لثوان أقع فيما يشبه الدوار أو فقدان الوعي . وهي الحالة التي أحسها دائما مع كل هبطة إلهام تنزل على أم رأسي وقلبي . الكلمات تنسكب بروائحها وألوانها و أصواتها وجنونها . هكذا من غير إحم ولا دستور . أدخل في عوالم غريبة . أبصر أشياء . صور . ألوان . أنوار وأسمع أصواتا تحادثني وتهمس لي بكلام غرائبي لأول مرة أسمعه .
السيارة بدأت تترنح كالمسطول ذات اليمين وذات الشمال . أوشك أن أفقد سيطرتي عليها وأنا واقع في ارتباكي وحيرتي وفي غمرة الانخطاف الكلي . أيهما يجب أن أسيطر عليه الآن : الشِّعر ؟! أم السيارة ؟! الروح ؟! أم الجماد ؟! الحي ؟! أم الميت ؟! الباقي ؟! أم الزائل ؟!
حياتي بالنسبة لي وحتى آخر لحظة بعمري هي وقف للشِّعر ، أما موتي أو ما أظن أنه كذلك فهو لا أكثر من عبور للصراط الأول الموضوع بين ضفة الدنيا وضفة الأبدية المقابلة . وهو - أي الموت - لا شيء مقارنة بالشِّعر الذي أحس أنه امتداد أزلي لي في الزمن والوجود مثل مدادة ياسمين بيتنا التي تحبها وترعاها والدتي بحنو حتى إنها تتمنى لو أنها تتخطى الجدار والشبابيك والسطوح وتصل بمعراجها إلى السماء وتكهرب بعطرها كل الملائكة وكل من يسكن هناك من أحباب الله !!
حرائق الشِّعر تشتعل بي وتتزنر بنيرانها الملونة حول خصر مشاعري ولا مفر من هذه النار التي ليس فيها بردا ولا سلاما منذ اكتويت بجمرها والتسعت بألسنتها ذات ميلاد لا ينسى . أين أهرب ؟! هل أقفز من نافذة السيارة وأصرخ وسط الشارع مثل مجانين نيويورك و سكارى لندن : أنقذوني. إني أتنفس تحت النار . إني أغرق . أغرق . أغرق ...
والسيارات تعبر من جانبي بأعين مستغربة مندهشة ، والتي ورائي تزعق بي وتلكزني بأصواتها وتطلب مني أن أتحرك . وبسبب بطء سرعتي ، ازدحم الشارع فجأة ، وبدأت الناس تتذمر ، وهاهي على وشك أن تفقد صبرها وتنفجر في وجه هذا السائق الغريب الأطوار الذي يمشي بدون عقل ولا ( سعاية ) كما يقولون في لهجتنا . ألتفت خلفي مذعورا . فعلا الشارع بسببي بالكاد يتحرك . أبيات القصيدة تتراقص أمامي مثل حسناوات الهند على مروج كشمير . وفمي يغرق بالشعر . انعطفت مع أول فرصة إنفساح واتتني ودخلت في الحارة الأولى التي يمين الشارع . تعجبني الحوائر اليمنى للشوارع وخاصة الشوارع السريعة . حارة اليمين هادئة ومسالمة وفي حالها . لا يهمها من ينطلق بسرعة 200 ولا من يزحف كالسلحفاة ويسوق على راحته مستمتعا بسماع علي بحر أو ناني .
وفجأة بعد دخولي في الحارة اليمنى للشارع تنفست سيارات الحارة اليسرى الصعداء وانطلقت وراحت تصرخ في وجهي ببوقاتها وسائقيها الملوحين لي بأيديهم المستنكرة وأصواتهم التي لم تخل من العبارات والملافظ القاسية والغاضبة التي " تمردغت " بسياط ألسنتها اللاهبة آخر " مردغة " :
■ يلعن هذا الشباب اللي بذا الزمن !!
■ جيل ضايع بلا عقل !!
■ سكران مية مية !!
■ اااااييييييه إنتبه ف الشارع !!
■ يلعن شكلك !!
الشتيمة الأخيرة جعلتني أتشكك في شكلي . فنظرت للمرآة . " كِـشـَّـة الشَّـعـر " الجيفارية كما هي . الوجه الحليق كما هو . الشنب الخفيف لم يسقط . وخيل إلي كأني سمعت صوت صديقة مقربة أعرفها تهمس مشجعة :
♡ سيبك منهم . أنت وسيم !!
وضحكت . من حسن حظي بذاك الوقت لم تكن تتواجد أي دورية شرطة وإلا رحت فيها ولن تنفعني ساعتها لا قصيدة ولا عصيدة ولا إلهام ولا شاهين .
خرجت من الشارع متلبسا بحرائق قصيدتي . بحثت كالمصاب بحالة إدمان ويبحث عن أي " بودرة شم " ليسكن بها هذا الألم الفظيع الذي ينهش ويهرش جسده . القصيدة لا تتوقف . تشاكسني بحضورها وتصر مثل الضرة العنيدة الراكبة رأسها :
♡ يا أنا. يا هذي السيارة .
وجدت الدفتر الصغير . " دفتر الطوارئ " كما أسميه ورحت أكتب بسرعة وبلهاث كل ما أقدر على المساك به من جمر الكلمات المتطايرة . الأبيات تنهال عـلـيَّ وتلسعني بنارها من كل جهات الوحي . الوحي الشعري الذي يجعلني أتصفد عرقا وقلبي يخفق بشدة فرحا وسعيدا بمطر النار ..
أختي المستعجلة عاودت تتصل بي ومؤكد أنها ملت من وقفة الإنتظار أمام المبنى الحكومي والناس رايحة جاية . تكره أختي كره العمى هذا الإستئناء وسط الزحام والعيون " المبققة " التي لا تدع خلق الله لحالها .
_ حاضر . جاي . مسافة السكة .
_ شو مسافة السكة و هلأ الساعة عدت النص ؟!
سلمتها حاجتها ورجعت فورا .. حتى إنني نسيت في غمرة الحالة التي أنا فيها أن أطلب منها أن تسلم على أولادها وعمتها . السيارة مولية بمقدمتها شطر الشرق . لكن أنى لي أن أعود إلى البيت ومازلت أحترق بقصيدتي ومازال جوع نارها يصرخ من قعره المشتعل : هل من مزيد ؟! والله وحده العالم متى ستكتفي ؟!
في مكان بعيد ومنعزل وهادىء إرتميت مثل كاهن هندي في قلب نار الكلمات . كان كل بيت شِـعـري أكتبه على الورق هو في الحقيقة صرخة تخرج من أعماقي حارة ساخنة متوهجة فأضعها كما أضع الورود على السطور صرخة تلو صرخة غير مبال أنني أكتب وارسم بحبر وألوان النار ، وأنني أكتوي وأحترق بكل ما في قاع الجمر الملتهب بعقلي أو بقلبي أو أوراقي، لا ثمة فرق .
أندهش وأنا أتأمل أبيات القصيدة التي مازالت تزفر بدخان حرائقها أنني اشتعلت بكل هذا الأجيج وأنني خرجت من هذه الحرائق وأنا غير مصدق أنني مازلت بينكم حيا أرزق رغم شياطين الشِّعر التي ما فتأت تهددنني وتتوعدني بحرائق شِـعـرية جديدة وعذاب شِـعـري جديد . ولا أمل في أي نجاة أو خلاص طالما أنني من أهل نار الشِّعر . والحمدلله أن لا أمل في أي نجاة أو خلاص من هذه النار ، مادام كل شيء يأتي باسم الشِّعر وروح الشِّعر ونار الشِّعر . وإنا للشِّعر .
بقلمي / سعيد مصبح الغافري ______________________