بـائـع الآيـس كـريـم



تلك الحلوى ..
التي كانت فيها طفولتنا !!
براءة ما نستطعم من أيام حلوة !!
نقاء الذهن الصافي المتهيء ببياض صفحته لكل فروض الأبجدية المتنزلة عليه برفق وتأن كصبح في أولى تنفسات ضيائه !!
كنا عجينة الزمن الأول الذي كانت تتشكل فيه ملامح براءتنا وشقاوات أسعد عمر .
كنا براعما صغيرة خضراء وأصبحنا غابة بسيقان تجري في دروب الحياة بمساحة أحلام وأماني وبحار من عرق وكدح وكبد .
شهادتنا الكبيرة التي أخذناها وعشنا فرحتها ؛ منحتنا - نعم - المأكل والمشرب والبيت والزوجة والسيارة والستر وبعض رطانة ثقافة وواجهة براقة لتمظهر زائف وربما مسرحي على غالب الأحوال .. لكنها بالمقابل جعلتنا أسرى الروتين والأعباء والقلق والإجهاد والذهن الشارد والقيود وقائمة من أعمال يومية لا تنتهي إلا عندما نكدس عظامنا المنهكة والمستلبة الطاقة آخر الليل على سرير أشبه بنعش يحمل ميتا .
أطالعني في مرآة تأملي ؛ ثمة شعيرات بيض تنفرط مثل وميض إنذار مبكر من وسط المرج الأسود لشعري الذي يحيط برأسي والذي ما عاد الآن طليقا ولا منثورا في الريح كما كان زمان صباه وفتوته وجنون أيامه بل صار عشبا صغيرا خجولا بالكاد يرتفع قليلا عن جلدة الرأس لرجل كبح " الزمن العاقل " جماح ركض شعره وروضه وجعله أكثر هدوءا وإستسلاما لمقص الحلاق الذي أصبح يعرف تلقائيا عندما يأتيه بأية درجة سيحلق هذا الشعر .
كبرنا يا صديقتي وشاخ بائع الآيس كريم بسرعة !! فمن يمنحني الآن ساعتين من طفولتي تلك التي فقدت ؟! ساعتين فقط يا صديقتي أتوسل أن ترجعا لأقف فيهما أمام ذاك الرجل البسيط الطيب الذي كان يتجول في الحارات وهو يمزج حماس ( إقرأ ) بالآيس كريم فيجعلنا نتلمض حلاوة ما نشتهي ولذة الزمن الذي تتبارى به ذاكرة ( عن ظهر قلب ) .. من يمنحنيهما يا غاليتي ؟! ساعتين فقط لوراء من عمر كان .. ساعتين فقط لاستعيد فيهما دروس البساطة التي كانت تجوب الحارات بآيس كريم وتحد بسيط بدرس يحفظ في ساعتين فقط لمن يرغب فعلا أن يفوز بآيس كريم من عمو البائع !!



كبرنا يا صديقتي وضاعت منا ملامحنا الأولى .. ضاعت ضحكتنا .. سقطت أيدينا الغضة مثل ورود عصفتها الريح . أين كفي التي كنت أزاحم بها أيادي الرفاق عندما يأتي إلى حارتنا ذاك البائع ومعه مخاريط الآيس كريم بألوان مغرية بين البني و الأبيض والوردي والأصفر والمخطط وقد ذر على قممها المدببة المثلجة بعض مكسرات مهروشة .. وأين ضاعت تلك الدروس ؟! وهل مازال أحدا منا يحفظ شيئا منها ولو بعض فتافيت سطور أو كلمات ؟!
صادفناه اليوم هناك شيخا هرما جالسا بوقار معلم عند إحدى الطاولات خارج ذاك المقهى يشرب بهدوء قهوة وحدته السوداء وهو يطالعنا بعين ذاكرة الماضي وكأنه يعرفنا تماما .. إمرأة ورجل بعمر متقارب تدنو خطواته من الخمسين ؛ هي بلباس الطب ذاهبة إلى عملها ، وهو في لباس رسمي ذاهب إلى عمله أيضا .. ينظرنا بعمق وفي تلك النظرة لمحت ألف عتاب صامت وألف حنين وشيء من فخر كثير .. هلمي معي إليه .. هلمي صديقتي لنطبع على كفيه وجبهته قبلات الشكر والذكر والعرفان والدعاء .. دعينا عنا وعن جميع رفاقنا الأحياء منهم والأموات نضع على صدره الأبوي وسام محبة ونقول له بكل عمق الصدق والاعتذار الحار :
♡ يا أول من أعطانا حلاوة ذاك الدرس .. سامحنا يا غالي .. سامحنا فقد أخذتنا عنك مشاغل تلك الشهادات الموضوعة بالدرج .. تلك التي غيبتنا في حياة بلا طعم سوى ملح العرق اليومي وبلادة شعور ضائع توقف فيه كل شيء .
سامحنا .سامحنا .. عدنا من بعدك أميين نبحث بحنين عن ساعتين وعن رجل كان يتجول في الحارات ويطلب منا أن نحفظ درسا في ساعتين ليهدي الفائز ألذ آيس كريم .
بقلمي / سعيد مصبح الغافري
_____________________