وحان ترجل الفوارس ..
ثلاثون عاما مضت كلمح البصر،،مازالت في الذاكرة فرحة التخرج وحمل الشهادة لنبني نحن جيل النهضة بسواعد هممنا العالية وحماسنا الشبابي المتقد وطناً غاليًا أعطانا الكثير ،،
اختصرنا الطريق للكلية المتوسطة للمعلمات رغم أن درجاتنا تؤهلنا بدخول الجامعة ولكن رغبة العمل كانت تسيطر على عقولنا وظروف البعض الأسرية كانت تصطف عليهم وتجبرهم على الدخول في حقول العمل لإعانة الوالدين بعد هذه السنوات من الكفاح والصبر والحرمان.
حلمنا كما حلم سلطاننا قابوس_طيب الله ثراه _ أن تكون عمان في المقدمة وفي مصاف الدول .
لذا شمرنا عن سواعد الجد حبا له ولعمان .
لن ننسى وعورة الدروب ،،وبعد المسافة التي كنا نقطعها في سنوات تعيينا الأولى،،لن ننسى حوادث الطرق التي حدثت لنا ذات مساء ونحن نهتف بصوت واحد (الله وأكبر)
كدنا أن نكون في عداد الموتى لولا لطف الله بنا،،،
مازالت الذكريات مبثوثة في ثنايا الذاكرة ونحن نسهر في تلك المدارس البعيدة لأخر الليل بحكم دوامنا مساء لأجل الفوز بالمراكز الأولى في الأنشطة التربوية المختلفة،،
وانا أثرثر هنا خيل لي أيام المعسكرات منذ الصباح الباكر إلى المساء ...
يا لتلك الأيام الحلوة التي عشناها واللوحات المختلفة للأنشطة التي كنا نتفنن بحب وحماس في إعدادها وتجهيزها.
افتقدنا هذه الأجواء اليوم بعد أن أمست صفحات من الذكريات نقول عنها اليوم بحسرة إنها لجيل الطيبين...
اليوم أطالع وجه حال المدارس وكيف صارت شبه خالية من المعسكرات التي أصبح الجيل الجديد يتأفف منها بينما كنا نحن وطلابنا في ذلك الوقت نتسابق إليها معا والفرحة تغمر وجوهنا . كانت البراءة هي أجمل ما يميز ملامحنا الفتية ومنها وبها كنا ننطلق مشحونين بطاقة العطاء والبذل الصادق دون خجل او ترفع أو ازدراء
تسارعت الأيام ولم نشعر بها تمضي لأننا كنا في زحمة العمل ننسى أنفسنا وهمنا هو أن نخلق جيلا له مكانة بالمجتمع مثلنا..
وهانحن نرى طلابنا .. من هو معنا في السلك التربوي ومن هو مهندس ومن هو طبيب فنتفخر أننا كنا معلمين لهم،،فمازلت اذكر عندما أذهب لأي مكان استقبال الامهات بعد سنوات كثيرة .. كم من أم صادفت وأسمعها تقول لي باعتزازٍ كبيٍر : ( كنتِ يوما معلمة إبنتي فلانة )
وأخرى تحتضنني بحرارة وهي تقول والدموع تطفو منسابة من عينيها :
(مازلنا إلى يومنا هذا نشكرك لأنك سببا من أسباب تفوق ابننا وهو الآن يشغل المنصب ....... )
ليست هاته هي المرة الأولى التي أصادف فيها مثل هذه المواقف المؤثرة في أو في سواي من زملائي وزميلاتي من المعلمين المخلصين . فالحديث فيها لو سردت يطول.
حينها .. كنت ومازلت للآن أشعر بالفخر والاعتزاز بنفسي أنني كنت وفية لوطني طوال ثلاثون عاما من الخدمة في أعظم واقدس واخطر مهنة في العالم . مهنة صنع جيل جديد متسلح بالتربية الحسنة والتعليم الجيد القادر حقا أن يبني بلاداً ويخلق تنمية ونهضة وقوة .
وتمضي بي السنين متنقلة من مدرسة لأخرى ،،من معلمة في أولى خطوات التدريس إلى معلمة أولى،،وهنا تبدأ قصة جديدة ومسؤولية كبيرة ولكن أيقنت أن الكلمة الطيبة لها وقع خاص في النفوس لذا كان عملي في اريحية تامة.
ورغم كثرة المهام لم اتذمر يوما ما ،،بل كنت اعمل بحب وعشق لذا كان الأثر هو المتحدث عني قبل الرحيل إلى مكان أخر رغم اقتناعي أن أظل معلمة ولكن أتت العبارات ممن يقدرون العطاء :
(أستاذتي الفاضلة أنتِ هنا يستفيد منكِ مجموعة فقط ونحن نريد جميع المعلمات يستفيدن من خبراتك ويتعلمن العطاء منك،،نحن نعرض عليك الإشراف لأنك أهلا له) .
مازالت تلك الكلمات خالدة في ذاكرتي رحم الله من قالها لي؛ الأستاذ'حسين الجهضمي وأستاذتي المشرفة الأولى موزة الكثيرية أطال الله في عمرها
وبعد مضض وافقت أن أخوض هذه التجربة وأن أكون جديرة بالثقة التي اولوني إياها وها أنا أتحمل مسؤولية جسيمة لمدارس عدة ونفسيات مختلفة لمعلمات معهن ايقنت بجمال العمل الجماعي واكتسبت فنا من فنون التعامل الراقي الاخلاقي بين المسؤول والعاملين معه .
وهاهي مضت تسع سنوات أخرى من عمري اتنقل فيها كالفراشة من مدرسة لأخرى أنثر ورد الود والضحكة والسلام مع لمسات من التميز والإبداع في كل مدرسة اشرفت عليها حتى أصبحت مدارسي يشار لها بالبنان،،
لم يكن ذلك التميز حكرا لي وحدي بل وجدت في كل مدرسة معلمة أولى ومعلمات مميزات مبدعات معطاءات ليس لهن شبيه
فقط كنا نفكر ونخطط وننفذ بدون كلل او ملل ،،كنا نشعر بجمال العمل كفريق واحد،،
كنت أماً وأختاً وصديقةً للجميع بلا استثناء .
ورغم معرفة الجميع بأنني لا أقبل بالتقصير في مجال عملي ورغم تشددي المعروف إلا أن المعاملة الطيبة فن من خلاله استطعت ان أزيل عراقيل كثيرة بيني وبينهن وكنت أراعي الجميع لذا استطعنا ان نبدع معا. بحب وسلام..
رغم أن قرار الرحيل عن التربية هو مرادي هذا العام والجميع على علم به ،،فقد جاء وأنا مستعدة نفسيا وذهنيا لإستقباله بكل ود لأني ايقنت من العام المنصرم أن الرحيل قد آن موعده وأن الأماكن لابد ان نغادرها شئنا أم أبينا ،،ومازلنا بصحتنا
لذا لم يحزنني القرار بقدر حزني وألمي وأنا اسمع تلك الصرخات الموجوعة من معلماتي والكلمات الثكلى التي ارسلت لي منهن،،وتلك الدموع التي انسابت منهن وخذلتني دموعي ووجدتني في تلقائية وجعي أبكي مرغمة بكل حرقة ،،
حينها سجدت لله قائلة:
يارب أي حب هذا الذي تركته في قلوب من عرفني ؟!
وأي كلام يقال قبل الوداع ؟!
وأي ابجديات للغة يمكن أن اصوغها لأعبر فيها بكل هذا الجيشان الذي يملأ روحي ويطفر من قلبي وأنا أمام حقيقة لا مهرب منها وهي أنني سأفتقدكن حقا بقدر افتقادكن أنتن لي ،،
برهة اغمضت عيني وأخذني شريط السنين إلى رحلة عمر مضت ،،فأستفقت من غفوتي وأيقنت أن السعادة هي القادمة بعد سنوات العطاء ،،وأن الفرح كما عانقنا ونحن بين احضان المدارس فحتما سوف يلاقينا بأحضان أكثر حميمية ونحن بين افراد أسرتنا واصدقائنا ،،وأن الله اعطانا الكثير وآن لنا أن نقول :
اللهم لك الحمد والمنة على جميل عطاياك منذ ولادتنا إلى وقتنا الحاضر،،
لكل من عرفتهم في السلك التربوي شكرا..
لكل من أشاد بعملي شكراً،،ولكل من ساندني شكراً .ولكل من لم ينصفني ايضا اقول شكراً لانكم كنتم السبب لأن ابدع أكثر وأكثر،،وأن أكون في المقدمة دائما ،،
شكرا لتلك الأرواح التي تدعوا لي سراً وعلانية وبالجهر والخفاء،،
لن نفترق .. فالعمل كان مجرد مكان
والأماكن عديدة للقيا بين الأصحاب والاحباب..
اعتذر على التقصر وعلى الزلة ...
ولعل الأيام القادمة أجمل ..
ما أنا متيقنة منه فعلاً هو أنني سأرحل وسيبقى الأثر
فنحن جيل لا ينسى ،،وبصماتنا تحكي عنا،،
شكرا لقابوس الذي علمني وجعل لي اسما اعتز به ..
شكرا لوالدي الراحل ،،شكرا لامي الغالية،،
وشكرا لروحي الجميلة،،شكراً لشريك عمري ،،شكراً لأبنائي ..
لنبتسم ونحن مغادرون ،،
كان واجباً مقدسا وقد افنينا اعمارنا بإخلاص عميق وصادق لأجله
وهانحن اليوم نسلم راية مواصلة العطاء للجيل الجديد من معلمي ومعلمات هذا الوطن ليمضوا بنفس الروح المتقدة ونفس الحس الوطني الصادق ونفس أمانة المسؤولية في ظل مولاي السلطان هيثم بن طارق حفظه الله ورعاه
والله الموفق إن شاء الله
والآن آن أن نقول وداعا وأن نتأبط قافلة الرحيل ونغادر أرواحا من جنود الصمت بعد كل هذه السنين.
دمتم بخير
بقلمي /وداد روحي
مشرفة مجال أول
بمحافظة /جنوب الشرقية
2020/7/7م