المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المعجزة اليابانية.. ماض عنيف وحاضر مسالم



fawaz_a
20-01-2015, 02:56 PM
خالد بن رشود

لا شكَّ أنَّ التجربة اليابانيَّة الحديثة مِنْ أكثر التجارب إثارة للإعجاب، ومدعاة للدراسة والتفكر. ولا يُبالغ من يقول بأنها رُبَّما من أبرز تجارب النهضة والحضارة في تاريخ الإنسانية أجمع. فبيْن حَرْب وسِلْم، وسياسة تسليح ثم مُحاربة التسليح عالميًّا، وبَيْن الاهتمام بعسكرة المجتمع إلى «أنسنة» العسكر، وبَدْء الحروب إلى مَنْعها، تَوَارُث عداوات تاريخية مع جيرانها إلى عَلاقات وطيدة قلَّ نظيرُها في عالمنا المعاصر، بَيْن ذلك كله صَنَعتْ اليابان تاريخها الحديث؛ في ظاهرة تستحق التوقف والدراسة والبحث والتحليل.

وفي مقالة عنوانها: «أضواء على سياسة التسامح والغفران في الفكر الياباني الحديث والمعاصر»، يبحثُ مسعود ضاهر الأسبابَ التاريخية والاجتماعية والإنسانية والسياسية التي صنعتْ المجتمع والشخصية اليابانية اليوم. يبدأ الكاتب الطرح بحقبة «العزلة» التي فرضها قادة اليابان على البلاد قديما، والتي كانتْ ردة فعل على التدخل الغربي بشكل كبير في البلاد، والذي لم يكن تدخلا سياسيا بريئا، بل لامس عُمْق الشخصية اليابانية، وهدَّد الكثيرَ من القيم المتوارثة القديمة بالزوال لو استمرت الحال؛ لذلك اتخذتْ السلطات الحاكمة وقتها إجراءات استثنائية يُقصد منها الحفاظ على هوية البلد والإنسان فيه. وكانت تلك الإجراءات صارمة جدًّا، أشدُّها منع الخروج من البلاد دون إذن، ومنع من يحصل على إذن المكوث خارجا أكثر من خمس سنوات، والموت عقوبة المخالف. كما قُيِّدت حركة الملاحة الداخلية، واحتكرت الحكومة الملاحة الخارجية لها فقط. ومنعت التجارة مع غير الياباني بكل أشكالها، ومُنع غير الياباني من استخدام المخازن اليابانية لأي غرض كان.
واستمرتْ تلك العزلة لقرون طويلة ولم تنتهِ إلا بحلول العام 1853م حين بدأت بوادر الإصلاح والتغيير، وانتهتْ فعليًّا في عهد الإمبراطور مايجي عام 1868م. إلا أن هذا التغيير لم يمر دون عقبات، فقد فرضت الولايات المتحدة الأمريكية على اليابان اتفاقيات مُذلِّة استمرتْ أكثر من أربع عشرة سنة من 1853م إلى العام 1986. بَيْد أنَّ ذلك جعل الإمبراطور ماجي المتوَّج حديثا يُشرع تشريعات جادة ومهمة للإصلاح والتنوير، مما كان له الأثر الكبير إلى يومنا هذا في تاريخ اليابان الحديث. وكانت التشريعات الجديدة تنصُّ على الشورى قبل اتخاذ القرارات بحيث تراعى المصلحة العامة قبل سن القوانين، كما ساوتْ -من حيث المبدأ- بين كل المواطنين، وإن لم تدخل في التعامل الاجتماعي بين الناس أنفسهم، وسعتْ الدولة لسلطة أكثر مركزية فجمعتْ بَيْن القوة العسكرية والسلطة المدنية في يد الإمبراطور مباشرة، وأخيراً الاهتمام بالعلوم والتكنولوجيا الحديثة بكافة فروعها.
أحدثتْ تلك التشريعات الجديدة تغيُّرات كبيرة في المستقبل الياباني؛ فتحوَّل الجيش الياباني من جيش ضعيف التسليح والإعداد إلى أقوى الجيوش في العالم، واليابان من دولة ترضخ للشروط الأمريكية إلى دولة ذات أطماع توسعية. الجدير بالذكر أنَّ الحكومة كانت تمنِّي الشعب بأنها ستكون حكومة ديمقراطية مُنتخبة مستقبلا، ولكن لم يتحقَّق ذلك، ولم يعترَّض الشعب وقتها لاعتبارات دينية تعتبر الإمبراطور من سلالة الآلهة، وأنه أبٌ للشعب كله، إضافة لإنجازات الإمبراطور على أرض الواقع من تقدُّم وقوة ورخاء في العيش.
ويشير الكاتب لمبدأ مُهم اعتمدته اليابان وقتها، ولا تزال تفعل ذلك إلى اليوم؛ وهو: «التكنيك غربي، أما الروح فيابانية»؛ فاليابان لم تستمر في عزلتها؛ إذ إنَّها أدركتْ تخلفها عن الغرب، كما لم ترغب بالانفتاح الكامل كذلك؛ لذلك أخذتْ العلوم والتكنولوجيا، وأرسلتْ شبابها للدراسة في الخارج؛ كلُّ ذلك تحت مراعاة ورقابة شديدة ألا يُؤثر ذلك في القيم اليابانية المتوارثة، وألا يَطْغى التغريب على الهوية المحلية. وأثمرَ ذلك دولة حديثة عصرية مركزية، واقتصادًا قويًّا، وإن كان الإمبراطور احتفظ بسلطة مركزية مطلقة ومستبدة.
وكان لانتصار اليابان في الحرب العالمية الأولى نتائج مُهمَّة؛ منها: السعي الأمريكي لاحتواء القوة العسكرية اليابانية ضمن اتفاقيات مُضلِّلة، والذي أغضب القادة العسكريين في اليابان بشدة؛ مما جعل العلاقات اليابانية-الأمريكية تتدهور. وبَيْن الأحلام العسكرية اليابانية بالتوسع والقوة والسيطرة العالمية، والحذر الأمريكي من القوة المتزايدة لليابان، هاجمتْ اليابان القوات الأمريكية في الواقعة المشهور في بيرل هاربر وأنزلت بها خسائر كبيرة وفادحة.
ومع استمرار القتال، أدركتْ أمريكا شراسة الجنود اليابانيين، وأنهم لن يستسلموا أبدا؛ فلجأت إلى أسلوب القتل الجماعي، فأسقطت قنبلتين نوويَّتين أنهيتا الحرب وجعلتا اليابان تستسلم مباشرة بعدها. وكأيِّ مُنتصر، فرضتْ أمريكا شروطا صارمة على اليابان، وألغت الدستور المعمول به، مع إقرار دستور جديد يَحْرِم الإمبراطور من كل سلطاته، ويمنع اليابان من امتلاك السلاح والجيش ككل، ويُعطي أمريكا الحق في بناء قواعد عسكرية. ورغم الهزيمة والخسائر الكبيرة في الأرواح والأموال، استغلتْ اليابان الوضعَ المفروضَ عليها استغلالا إيجابيا، وركَّزت على التنمية الاقتصادية وإعادة الإعمار والبناء، دون أن تنفق أقل القليل في الدفاع والتسليح. وكانتْ الحقبة التي قادها رئيس الوزراء يوشيدا حجرَ الأساس في تخطي نكبة الحرب، ووصول اليابان إلى ما هي عليه الآن، وصنع ما يُعرف اليوم بـ»المعجزة اليابانية».
وخلال العقود التي تلتْ ذلك، تحولتْ اليابان من دولة عسكرية تصنع الحروب إلى إحدى أكثر الدول في العالم استعدادا للتسامح والتجاوز عن أخطاء الماضي؛ فقدَّمت اعتذارات للصين وكوريا...وغيرهما، مع تعويضات مادية للأضرار، وسعتْ بقوة لدعم الأمم المتحدة، والحث على إصلاح سياساتها بما يسمح لها بدور أكبر في حلِّ مشكلات العالم بطرق سلمية دون الحاجة لقوة السلاح. ولم تستجب السلطات اليابانية للتحفيز الأمريكي لها لشراء السلاح؛ فهي لا تريد ذلك وإن كان المَنْع فُرض عليها سابقا، كما أنها لن تفعل ذلك إلا عندما تقرِّر أنها تحتاجه حقًّا، في إشارة واضحة وقوية لاستقلال القرار الياباني عن هيمنة المنتصر الأمريكي.
... التحوُّل الكبير الذي شهدته اليابان له جُذور تاريخية كبيرة، تعود لفترة حروب المقاطعات؛ أي ما قبل العام 1500م؛ فبعد أنْ كانت المقاطعات اليابانية تتقاتل فيما بينها رغم وجود إمبراطور واحد، استطاع القائد أودا نوبناجا -ومن بعده تويوتوميهيده-يوشي، وتوكوغاواإيه-ياسو- توحيد البلاد، والقضاء على أغلب القوى العسكرية الموجودة وقتها، وكرِدَّة فعل طبيعية بعد الوحدة أن تتوجَّس وتحذِّر حكومة الوحدة الجديدة من خطر خسارة الوحدة، وخسارة الهوية التي من أجلها تقاتلوا أصلا؛ لذا كانت العُزلة مسوِّغًا في نظرهم وقتها، وما تبع ذلك مما سبق ذكره.
... إن مبدأ الغفران والتسامح مبدأ ينبعُ من القيم اليابانية الأصيلة، والتي كانت أولوية لكلِّ الحكومات المتعاقبة على اختلاف فكرها وتوجهاتها، والتي -لعوامل تاريخية وعالمية- تأثرت وتوارت أحيانا في بعض حُقب التاريخ. فاللغة اليابانية مليئة بمفردات تدلُّ على الاحترام والتقدير من نحو «سان وكن وساما»، ومن المسيء أن تنادي أحدهم باسمه المجرَّد دون لقب، ومن الخطأ استخدام الاسم الأول إلا لأقرب الأقارب. والناظر في التراث الياباني والواقع اليوم يستطيع أن يرى -وبوضوح- التسلسل الطبيعي للأحداث الذي أدَّى لليابان أن تنتهج نهجها اليوم، من أمَّة تفتخر بالجندي الساموراي إلى أمة تفتخر بالإنجازات العلمية، وأحد أكبر داعمي السلام والحوار والدبلوماسية في العالم اليوم، وما حَدَث في الماضي هو ما يُمكن اعتباره ضمن الضرورات، والشر الذي لا بد منه لكل مُجتمع للنضج والتجربة؛ للوصول إلى نتيجة أخيرة، وقناعات ثابتة تحدِّد طبيعة وهُوية المجتمع والفرد محليًّا وعالميًّا.

نـــــــقــــــــاء
20-01-2015, 07:49 PM
بارك الله فيك ع الطرح
ينقل سبلة كنز المعلومات مكانه الأنسب

صخب أنثى
27-01-2015, 07:08 PM
http://store2.up-00.com/2015-01/1421162795791.png